Novembre
تشرين الثاني
21
2024
21
- تشرين الثاني
- 2024
القضية المركزية
جرائم الاحتلال
15-10-2024
 
هيئة الإذاعة البريطانية تسهم في الحرب على غزّة
فبركة اغتصاب جماعيّ
  عمر نشابة  

قبل صدور نتائج التحقيق القضائي الدولي المفترض في أحداث 7 تشرين الأول الفائت في مستوطنات غلاف قطاع غزّة المحاصر، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريراً بعنوان «حماس اغتصبت نساءً وقطعت رؤوسهنّ في 7 تشرين الأول» (مترجم حرفياً من الإنكليزية). وسمحت الـ«بي بي سي» لنفسها بإصدار حكم الإدانة بحقّ حركة المقاومة الإسلامية استناداً إلى مزاعم منقولة عن أشخاص يعملون لمصلحة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية. وبالتالي باتت هذه الوسيلة الإعلامية التي كانت تتمتّع ببعض المصداقية عالمياً، من أبرز المسهمين في الحرب النفسية التي يشنّها الإسرائيلي وحلفاؤه على المدنيين والأطفال والصحافيين والمستشفيات والمدارس في غزّة. إذ إنّ التقرير الذي نشرته يُستخدم على نطاق واسع لتبرير المجازر الإسرائيلية بحقّ المدنيّين
 

اختارت مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية في القدس المحتلة لوسي وليامسون أن تبدأ تقريرها بجملة كفيلة بجذب عدد كبير من القرّاء والمتابعين رغم أنها تجافي الحقيقة تماماً: «شاهدت بي بي سي وسمعت أدلّةً على حالات اغتصاب وعنف جنسيّ وتشويه النساء أثناء هجمات حماس في 7 أكتوبر». الـ«بي بي سي» لم «تشاهد» الاغتصاب المزعوم، ولم تسمع «أدلّةً»، بل أقوالاً وادّعاءات منقولة على لسان «عدد من الأشخاص المشاركين في جمع جثث القتلى في الهجوم والتعرّف إليها». هؤلاء الأشخاص ليسوا محقّقين جنائيّين ولا يمكن مهنياً الاستناد إلى أقوالهم للاستدلال إلى أسباب الوفاة أو لحسم الوقائع.

كتبت وليامسون: «أخبرونا أنهم رأوا علامات متعدّدة تدلّ على الاعتداء الجنسي، بما في ذلك كسر في الأحواض والكدمات والجروح والدموع». علماً أنّ تحديد «علامات تدلّ على الاعتداء الجنسي» من اختصاص الطبيب الشرعي والمحقّق الجنائي، بينما لم يذكر التقرير الإعلامي البريطاني وجود طبيب شرعيّ أو محقّق جنائيّ في المكان، ولم تكلّف وليامسون نفسها مراجعة طبيب شرعي للتأكد من أنّ العلامات التي تحدّث عنها «الأشخاص المشاركون في جمع الجثث» تدلّ فعلاً على اعتداء جنسي جماعي.

استندت الصحافية البريطانية إلى «شهادة فيديو لأحد شهود العيان في مهرجان نوفا للموسيقى، عرضتها الشرطة الإسرائيلية على الصحافيين، تفصّل تفاصيل اغتصاب جماعي وتشويه وإعدام إحدى الضحايا». لا يعني ذلك أنّ هناك تسجيل فيديو يعرض «تفاصيل اغتصاب جماعي» كما قد يعتقد القارئ للوهلة الأولى، بل يعرض «شهادةً» لشخص تدّعي وليامسون أنه «أحد شهود العيان»، من دون أن تشير إلى كيفية تأكّدها من ذلك.
وفي الفقرة التالية، كتبت وليامسون «تشير مقاطع الفيديو التي صوّرتها حماس لنساء عاريات وملطّخات بالدماء يوم الهجوم، وصور الجثث التي التُقطت في المواقع بعد ذلك، إلى أن المهاجمين استهدفوا النساء جنسياً». لماذا لم تعرض الـ«بي بي سي» الفيديو أو أجزاء منه عبر موقعها الإلكتروني؟ وكيف علمت أنّ حركة حماس هي التي صوّرت الفيديو؟

يرد لاحقاً في نصّ التقرير أنه «يُعتقد أنّ عدداً قليلاً من الضحايا قد نجوا ليرووا قصصهم الخاصة. تُجمّع لحظاتهم الأخيرة من الناجين وجامعي الجثث وموظفي المشرحة ولقطات من مواقع الهجوم». اللافت في الأمر أنّ مطلع النص يقول إنّ مصادر المعلومات تقتصر على «الأشخاص المشاركين بجمع الجثث»، ولا يشير إلى شهادات «ضحايا» و«ناجين»، علماً أنّ أقوال هؤلاء يفترض أن تكون أساسية، وكان يفترض التركيز عليها. لكن الصحافية اختارت على ما يبدو إهمال شهادات من سمّتهم «الناجين»، والتركيز على «الشهود»، من دون التأكّد من أنهم فعلاً شهود. وبوقاحة لافتة، تعدّ هيئة الإذاعة البريطانية كل ما تعرضه عليها الشرطة الإسرائيلية موثوقاً ويمكن الاستناد إليه من دون التدقيق في صحّته. فقد جاء في التقرير أنّ «الشرطة (الإسرائيلية) عرضت على الصحافيّين بصورة خاصة شهادةً مروّعةً واحدةً صوّروها لامرأة كانت في موقع مهرجان نوفا أثناء الهجوم. وتصف رؤية مقاتلي حماس يغتصبون امرأةً على نحو جماعيّ ويشوّهونها، قبل أن يطلق آخر مهاجميها النار على رأسها بينما يواصل اغتصابها».

وبدا في نص التقرير أنّ هذه «الشهادة» لم تُقل وجهاً لوجه أمام الصحافيّين، بل كانت مسجّلةً في شريط فيديو عرضته الشرطة الإسرائيلية. «في الفيديو، تُقلّد المرأة المعروفة باسم "الشاهدة إس" المهاجمين وهم يلتقطون الضحية ويمرّرونها من واحد إلى آخر. وتشرح بالتفصيل كيف قطع الرجال أجزاء من جسد الضحية أثناء الاعتداء». ويتابع النص في وصف مفصّل لمزاعم لم يتأكّد الصحافيّون من صحّتها ولم يتّضح كيف يمكن «تقليد المهاجمين».

ورد في تقرير هيئة الإذاعة البريطانية أنّ «أحد الرجال الذين تحدثنا إليهم من موقع المهرجان»، قال إنه «سمع ضوضاء وصراخ أشخاص يُقتلون ويُغتصبون وتُقطع رؤوسهم». وهنا يبدو أنّ الصحافية البريطانية قررت أن تقوم بنوع من التدقيق في صحة أقواله فكتبت: «رداً على سؤالنا عن كيف يمكنه التأكّد - من دون أن يرى - من أنّ الصراخ الذي سمعه يشير إلى اعتداء جنسي وليس إلى أنواع أخرى من العنف، فقال إنه يعتقد أثناء استماعه في ذلك الوقت أنه لا يمكن أن يكون إلّا اغتصاباً. ووصف بيانٌ أدلى به عبر إحدى منظّمات الدعم الأمر بأنه غير إنساني». وجاء في بيانه أنّ «بعض النساء تعرّضن للاغتصاب قبل أن يمتن، وبعضهن اغتُصبن أثناء إصابتهن، وبعضهن كن ميتات بالفعل عندما اغتصب الإرهابيّون جثثهن الميتة... كنت أرغب بشدة في المساعدة، ولكن لم يكن هناك ما يمكنني فعله».

راجعنا هذه الفقرة عدة مرات بحثاً عن الإجابة عن سؤال الـ «بي بي سي»: «كيف يمكنه التأكّد من دون أن يرى؟»، فلم نجده.
وربما استدرك محرّر النص ضعف مصداقية ذلك فأضاف أنّ «الشرطة (الإسرائيلية) قالت إن لديها روايات شهود عيان متعدّدة عن الاعتداءات الجنسية»، ولم يستطع تمويه الغموض والتكتّم عن أنّ الشرطة الإسرائيلية «لم تقدّم أيّ توضيحات أخرى بشأن عددها (عدد روايات الشهود). عندما تحدّثنا إليهم، لم يكونوا قد أجروا مقابلات بعد مع أيّ من الضحايا الناجين».

فكيف سمحت الصحافية لنفسها بحسم مزاعم الاغتصاب الجماعي قبل أن تجري الشرطة مقابلات مع «الضحايا الناجين»؟

الـ«بي بي سي» لم «تشاهد» الاغتصاب المزعوم، ولم تسمع «أدلّةً»، بل أقوالاً وادّعاءات منقولة على لسان المشاركين في جمع جثث القتلى في الهجوم والتعرّف إليها
لماذا؟

ما الذي يدفع صحافية معروفة وإذاعة تدّعي الاحتراف إلى نشر هذه المزاعم وتعميمها؟ التفسير الممكن يكمن في الأحكام المسبقة التي أطلقها عدد كبير من الأوروبيّين والأميركييّن بحقّ الفلسطينيّين وازدواجية المعايير التي يعتمدونها عندما يتعلّق الأمر بـ«إسرائيل».

المصادر المعتمدة

لا شكّ في أنّ إدارة التحرير في هيئة الإذاعة البريطانية اعتبرت أنّ المصادر التي اعتمدتها وليامسون لكتابة تقريرها موثوقة وكفيلة بعرض الحقيقة على متابعي الـ «بي بي سي». وبعد التدقيق في ما ورد، نعرض تلك المصادر:

• وزيرة تمكين المرأة الإسرائيلية مي جولان.
• الدكتورة كوخاف الكيام ليفي من الجامعة العبرية.
• رئيس الشرطة الإسرائيلية يعقوب شبتاي.
• جامعو الجثث المتطوّعون مع منظمة «زكا» الدينية.
• نحمان ديكشتينا، «متطوّع عمل في أعقاب هجمات حماس».
• النقيب مايان، أحد جنود الاحتياط في فريق الطبّ الشرعي.
• جندية في الخدمة طلبت استخدام اسمها الأول فقط، أفيغايل.
• ديفيد كاتز من وحدة الجرائم الإلكترونية الإسرائيلية.
• الحكومة الإسرائيلية.

اعتبرت إدارة التحرير في الـ«بي بي سي» أنّ هذه المصادر التي تنتمي جميعها إلى الجهة نفسها، كافية لوضع تقرير يروي للناس «حقيقة» ما حدث يوم 7 تشرين الأول 2023. علماً أنّ أبسط المعايير المهنية والأخلاقية تستدعي إمّا اعتماد خبراء معترف بهم من طرفَي الصراع أو أشخاص ينتمون إلى الطرف المقابل. لكن الانحياز الواضح لإسرائيل والسعي إلى المساهمة في الحرب النفسية التي تُشنّ ضدّ الفلسطينيّين كما بدا واضحاً، دفع الـ«بي بي سي» إلى الاكتفاء بالمزاعم الإسرائيلية وتعميمها من دون الاتصال بمنظمات حقوقية دولية مثلاً أو بِذوي الاختصاص.
الصحافية وليامسون اكتفت بالقول إنّ «المحقّقين (من دون أن تذكر أسماء أو لمصلحة أيّ جهاز) يعترفون أنه في تلك الأيام الفوضوية الأولى بعد الهجمات، حيث كانت بعض المناطق لا تزال مناطق قتال نشطة، كانت فرص توثيق مسرح الجريمة بعناية، أو الحصول على أدلّة الطبّ الشرعي، محدودة أو ضائعة». ورغم هذا، قرّرت هيئة الإذاعة البريطانية تبنّي مزاعم فارغة تخدم الدعاية الإسرائيلية. ولم تكلّف وليامسون نفسها الاتّصال بخبير أدلّة جنائية أو بمرجع قضائي متخصّص بمتابعة الجرائم الجنسية، بل اعتمدت أسلوباً دعائياً رخيصاً لكتابة تقرير يُستخدم اليوم لمحاولة تبرير المجازر المتمادية والمستمرّة بحقّ الأطفال والمستشفيات وآلاف المدنيّين في غزة المحاصرة.
وسعت وليامسون كما يبدو إلى البحث عن تفسير لعدم إجرائها مقابلات مع من تدّعي أنّهن «ناجيات» من الاغتصاب الجماعي المزعوم، فنقلت عن وزيرة تمكين المرأة الإسرائيلية مي جولان قولها إنّ «عدداً قليلاً من ضحايا الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي نجون من الهجمات، وأنهنّ جميعاً يتلقّين حالياً علاجاً نفسياً». أما رئيس الشرطة الإسرائيلية يعقوب شبتاي، فقال إنه «نُقل 18 شاباً وشابة إلى مستشفيات الصحة العقلية». وبدل أن تتوجّه وليامسون إلى هذه المستشفيات حيث تتلقّى «الناجيات» علاجاً نفسياً لمحاولة الاستماع إلى أقوالهن، اكتفت بالقول إنّ الوزيرة الإسرائيلية حسمت «أنّهن غير قادرات على التحدّث، لا معي ولا مع أيّ شخص من الحكومة أو من وسائل الإعلام».

مزاعم فارغة لتشويه حماس

تتحدث وليامسون عن «مقاطع الفيديو التي صوّرتها حماس» من دون أن تذكر مصدر الفيديو. والأسوأ من ذلك مهنياً هو حسمها بأن الفيديو صوّرته حماس من دون أن تشير إلى كيفية معرفتها بذلك.
ويبدو أسلوب وليامسون في صياغة النص وعرض «الأدلّة» ركيكاً، بسبب إصرارها على إقناع القرّاء برواية مفبركة. إذ تقول في إحدى الفقرات «تُظهر صورٌ متعدّدة من المواقع بعد الهجوم جثث نساء عاريات من الخصر إلى الأسفل» من دون أن تحدّد مصدر هذه الصور ومن التقطها وأين يمكن الاطّلاع عليها وكيف يمكن التأكد من أنها صحيحة ولم يتم التلاعب بمضمونها، وكيف يمكن التأكّد من أنّ ما يظهر في الصور هو فعلاً نتيجة لأفعال قام بها عناصر حماس وليس عناصر في الجيش الإسرائيلي مثلاً؟
واستندت وليامسون إلى الدكتورة كوخاف الكيام ليفي من الجامعة العبرية واصفةً إياها بـ«الخبيرة القانونية». لكن الخبيرة يبدو أن لا خبرة أو معرفة لها بأبسط قواعد البحث العلمي. إذ تزعم ليفي أنّ «هذه هي الفظائع الأكثر توثيقاً التي عرفتها البشرية». وهذا التصريح يدلّ على أنّها غير مطّلعة على المعايير العلمية للتوثيق الصحيح.
وعبّرت ليفي لوليامسون عن مشاعرها وعواطفها من دون أن تقدّم أيّ معطى علميّاً دقيقاً، فقالت: «أشعر بالقشعريرة لمجرد معرفة التفاصيل التي يعرفونها حول ما يجب فعله بالنساء: قطع أعضائهن، وتشويه أعضائهن التناسلية، والاغتصاب. إنه لأمر مرعبٌ أن أعرف ذلك». علماً أنها لا «تعرف»، بل تدّعي أنها تعرف، لأن المعرفة بالنسبة إلى الخبراء القانونيّين لا بدّ أن تستند إلى دليل مثبت لا إلى مزاعم استبقت التحقيق العلمي.

مزاعم التخطيط للاغتصاب الجماعيّ

لم تكتفِ ويليامسون وزملاؤها في لندن بتشويه سمعة المجاهدين في حركة المقاومة الإسلامية عبر المشاركة في فبركة جرائم اغتصاب جماعيّ وتعميمها، تزعم أنهم ارتكبوها، بل ذهبت أبعد من ذلك عبر الزعم أنّ تلك الجرائم كانت عن سابق تصوّر وتصميم. ولهذه الغاية نقلت الصحافية البريطانية مزاعم ديفيد كاتز، من وحدة الجرائم الإلكترونية الإسرائيلية، من دون أن تشاور خبيراً آخر يعمل في المجال نفسه للتأكّد من صحّة ادّعاءاته. وقد تنبّه كاتز، على ما يبدو، إلى احتمال التشكيك في روايته بحجة أنّها غير مثبتة علميّاً، فقال: «سيكون من التهوّر القول إننا نستطيع بالفعل إثبات ذلك (...) لكن كل ما تمّ القيام به هناك، تمّ بشكل منهجي». ويمكن ختم هذه المراجعة لتقرير الـ«بي بي سي» عن مزاعم ضلوع حماس في جرائم اغتصاب جماعي بالجملة نفسها: «كل ما تمّ القيام به هناك، تمّ بشكل منهجي...»، بما في ذلك مساهمة وسائل الإعلام الغربية في فبركة الجرائم والتحريض على الإبادة الجماعية في غزّة.