Janvier
كانون الثاني
10
2025
10
- كانون الثاني
- 2025
المباحث العلمية
المختبر الجنائي
22-01-2022
 
بين الشنق والخنق عقدة
  جنان الخطيب  

في أحيان كثيرة، قد تكون علامات الرباط الدليل الوحيد المتاح في حالات الاختناق إما بسبب الشنق أو الخنق. لذلك، يلجأ الخبراء الجنائيون إلى فحص علامات الرباط وتحليل المعلومات المقدمة منها، للوصول إلى السبب الأكثر احتمالاً للوفاة. تقدّم هذه المعاينة الجنائية دليلاً تشخيصياً قوياً، وتعرض فحصاً تفصيلياً في ما يتعلق بمسار وعمق وعرض الحبل أو السلك أو المواد التي استُخدمت لأغراض الخنق أو الشنق
 

معلقة على جذع شجرة، على رؤوس أصابع قدميها، وجهها محتقن ومزرق، ماتت اختناقاً. على الفور، حضرت الأجهزة الأمنية إلى المسرح وباشرت التحقيق في الحادث. يبحث هؤلاء عن علامات وآثار الأربطة حول الرقبة ويلتقطون صوراً لها في مسرح الجريمة قبل أن ينظر إليها أخصائي علم الأنسجة (pathologist)بعمق أكبر في مرحلة التشريح.
عادة، تتجه أنظار الخبراء الجنائيين إلى مسار الرباط واتجاه العقدة على عنق الضحية. هذه المعاينة تُمكّن الخبراء من تحديد ما إذا كان سبب الوفاة خنقاً أم شنقاً، في حين أنهم بحاجة إلى فحص المسرح بدقة وأخذ كل الأدلة الموجودة بعين الاعتبار لإبداء الرأي في ظروف الحادثة: فلحوادث الخنق والشنق ظروفها، إذ يمكن أن تكون انتحارية، أو جنائية، أو عرضية. 
ولذلك، عند العثور على الضحية مشنوقاً أو مخنوقاً في البداية، يفحص الخبراء ثلاث فرضيات. يمكن أن تكون هذه الحادثة انتحاراً، أو جريمة قتل، أو موتاً عرضياً. ففي حين أن معظم قضايا الشنق حالات انتحار، نجد أيضاً حالات قتل مفبركة كالشنق الانتحاري. هذه الحالات نادرة جداً، وتكون الضحية عادةً عجوزاً، أو طفلاً رضيعاً، أو شخصاً تحت تأثير المخدر. في المقابل، معظم عمليات الخنق جرائم قتل، ولكن هناك أيضاً متوفون ماتوا انتحاراً بعد أن قاموا بشدّ الرباط ولفه عدة دورات حول العنق. 
ولكشف حقيقة الحادثة وظروفها، يعتمد الخبير الجنائي في معاينته على فحص «علامات الرباط» الناتجة عن الحبل أو السلك أو المواد التي استُخدمت في تلك الحوادث. على الخبير أن يقوم بالفحص والتفسير المطول والدقيق لمسرح الجريمة والأدلة الموجودة وعلاقة بعضها ببعض، واستخدام المنطق الاستنتاجي العلمي الذي ينطوي على مقاربة شاملة ومكرسة للوصول إلى قرار نهائي وإيجاد التفسير الصحيح لكل الأضرار والآثار الموجودة.

«علامات الرباط» بوصفها دليلاً جنائياً
 في كل من الخنق والشنق، تنتج علامات الرباط عن التلف الموضعي للجلد في الرقبة. تظهر هذه الآثار في أنماط وأحجام مختلفة عديدة تبعاً للمواد المستخدمة لأغراض الخنق أو الشنق. ويمكن أن تكون هذه العلامات فريدة من نوعها، كما في بعض الأقمشة والمواد، وهذا سبب أهميتها في التحقيقات الجنائية. 
تظهر هذه العلامات على شكل «ثلم» على الجلد يُحدَّد اتجاهه بواسطة العقدة (أو نقطة التعليق). يأخذ الثلم شكلاً يدل على طبيعة الأداة المستعملة: حزام صوفي، سلسلة معدنية، سلك كهربائي. أما أثناء الخنق اليدوي، فيمكن أن تكون علامات الأربطة هذه في بعض الأحيان بالشكل الدقيق للأصابع التي طبقت القوة على منطقة الرقبة على شكل جروح هلالية لأظافر الجاني. وقد يكون من الممكن في هذه الحالة استخراج عينات من الجلد لتحليل الحمض النووي. لهذه العلامات أهمية تشخيصية، وتتطلب فحصاً تفصيلياً في ما يخص مسارها وعمقها وعرضها.
ومع أن غضاريف الغدة الدرقية قد تنكسر في كل من الشنق والخنق، إلا أن موقع الكسور أو عددها ليس مهماً، بل المهم موقع الرباط بالنسبة إلى الكسر في سياق مشهد الوفاة. إذا لم تكن كسور الرقبة قريبة من ثلم الرباط وكانت هناك إصابات في أماكن أخرى من الجسم تشير إلى وجود صراع، فإن الحالة تكون أكثر اتساقاً مع جريمة قتل صُوّرت بكونها شنقاً انتحارياً. من ناحية أخرى، إذا لم تكن هناك إصابات أخرى في الجسم وكانت الكسور تتوافق مع موقع الثلم، فمن المحتمل أن تلك الهياكل العظمية قد تحطمت أثناء عملية الانتحار شنقاً.

في لبنان، تُعطى الأهمية الكبرى أثناء التحقيقات إلى آثار العنف والكدمات على جسد الضحية للتفريق بين الموت الانتحاري والجنائي لكشف حقيقة الحادثة وظروفها، يعتمد الخبير الجنائي في معاينته على فحص «علامات الرباط» الناتجة عن الحبل أو السلك أو المواد التي استُخدمت

الرباط يغيّر مسار التحقيق؟ 
توفّر معاينة الرباط والعلامات الناتجة عنه معلومات عمّا حدث عند ارتكاب الجريمة، وعمّا لم يحدث. كلّ ذلك باستخدام الأساليب العلمية، والأدلة المادية، والمنطق الاستنتاجي. وما إن ينتهي الخبراء الجنائيين من استنتاجاتهم استناداً إلى هذا التحليل يُسلَّم التقرير إلى المحققين، ما قد يُغيّر مسار التحقيق بأكمله أحياناً. تُساعد هذه الاستنتاجات على تأييد إفادات الشهود أو حتّى دحضها، والأهم إدراج أو استبعاد الجناة المحتملين من التحقيق.
أمّا في لبنان، فتُعطى الأهمية الكبرى أثناء التحقيقات إلى آثار العنف والكدمات على جسد الضحية للتفريق بين الموت الانتحاري والجنائي، في حين تُهمَل المعاينة المجهرية الدقيقة للرباط وآثاره على عنق الضحية. 

في المقابل، من خلال المعاينة الجنائية لآثار الرباط يُمكننا كشف غموض حوادث انتحار مشبوهة عديدة حدثت في لبنان أخيراً، والتي سنقدم بعضها.في 30 آذار الفائت، عُثر على السجين أحمد الكيّال معلّقاً بواسطة المنشفة القطنية الخاصة به. ومع أن التحقيق يجري بإشراف القضاء المختص، أصدرت الجهات الأمنية بياناً أوضحت فيه أنه بعد كشف الطبيب الشرعي على الجثة تبيّن أنها تخلو من أي آثار عنف أو جروح، ما يجعل الحالة متّسقة أكثر مع الانتحار.تضاربت رواية الأجهزة الأمنية هذه مع رواية عائلة المتوفى. «جوزي ما انتحر!» هذه الجملة التي ما تزال زوجة الكيّال ترددها، ما جعل الحادثة أكثر غموضاً. في المقابل، من خلال المعاينة المجهرية الدقيقة لآثار المنشفة على عنق الضحية، وفحص المنشفة مجهرياً كان بإمكاننا على الأقل إبداء الرأي ما إذا كانت تلك العلامات معتادة للشنق الانتحاري، أو اكثر اتساقاً مع القتل الجنائي.

لكشف حقيقة الحادثة وظروفها، يعتمد الخبير الجنائي في معاينته على فحص «علامات الرباط» الناتجة عن الحبل أو السلك أو المواد التي استُخدمت

أمّا الحادثة الثانية، فهي العثور على ماثيو علاوي جثّة معلّقة في أحد المنازل في منطقة كسروان. تعددت الروايات حول سبب الوفاة بين الانتحار والقتل، فيما التحقيقات ما زالت مستمرة. في هذه الحالة، يجب معاينة ومراقبة مسرح الجريمة بدقة أكبر، بما في ذلك نقطة التعليق، وعدد حلقات السلك حول عنق الضحية، وموقع العقدة على العنق، وموقع السلك بالنسبة إلى الكسر، للتأكد ما إذا كانت الكسور في العنق تتوافق مع موقع الثلم. كل هذه المعلومات مهمة جداً للتأكد ما إذا كانت هذه المشاهدات تتسق مع الانتحار أو إذا ما تبع التعليق القتل خنقاً.

الطلاء يحلّ  اللغز

ليس سهلاً دائماً على الخبير الجنائي التفريق بين الشنق قتلاً أو انتحاراً، خاصة إذا عُلّقت الضحية ثم خُنقت. لذلك يلجأ الخبراء أحياناً إلى البحث عن آثار أي مواد عالقة بالرباط يمكن أن تساعد في تحديد ظروف الحادثة. هذا ما حدث عندما بدأت الشكوك تحوم حول انتحار مسنّ في سريره في دار للعجزة. بعد التوسع في التحقيق، صرحت العاملة بأنه شنق نفسه حين علّق طرف الحزام على عارضة باب غرفته. لذلك،  أجريت دراسة جنائية مجهرية للحزام والعارضة. جاءت النتائج العلمية كافية لاستبعاد الانتحار بالطريقة التي وُصفت: لا يوجد على الحزام أي آثار من الطلاء الموجود على عارضة الباب، ولم تُوثَّق آثار لانزلاق الرباط. وكذلك، فإن مسار انحناء الألياف داخل الحزام يؤكد أن الرباط قد شُدّ بواسطة شخص آخر. هذه كلها تتسق مع القتل الجنائي!

« نقطة التعليق»، السهو القاتل

في جرائم قتل مفبركة عديدة، يلجأ المجرم إلى فبركة مظاهر الشنق في محاولة منه لإخفاء معالم الجريمة. لتصوير الحادثة بوصفها شنقاً انتحارياً، يعلّق الجاني الضحية بعد خنقها، ويرتّب المكان لإخفاء أي مظاهر للعراك، وربما يكتب رسالة انتحار أيضاً، إلا أنه يقع في أخطاء عمليّة تظهر من خلال فحص مسرح الجريمة من الخبراء. من تلك الأخطاء، نقطة التعليق. ففي حوادث الشنق الانتحاري، تستطيع يد المنتحر الوصول إلى نقطة التعليق مباشرة أو بالاستعانة بكرسي مثلاً. أما في بعض جرائم الشنق المفبركة، يعلّق الجاني الضحية تعليقاً تاماً، مع غياب أي منصة تساعدها للوصول إلى تلك النقطة.