لا يجوز قانونياً وأخلاقياً توقيف أحد أو اعتقاله تعسّفاً، وعلى الموقوف بتهمة جزائية أن يقدم سريعاً إلى أحد القضاة. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة. (راجع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 9). العهد الدولي لا يميّز بين الموقوفين ولا ينصّ على أفضلية أو حصرية تطبيقها على أشخاص دون آخرين. لكن في السجون اليوم آلاف الموقوفين احتياطياً ينتظرون محاكمتهم، بينما أخليَ سبيل عدد من المشتبه فيهم كانوا موقوفين في ملف انفجار 4 آب دون غيرهم. السجناء يرفعون الصوت ويناشدون القضاء بالمساواة
شكَّلَ قرار إخلاء سبيل موقوفي انفجار مرفأ بيروت خللاً في ميزان العدالة، كيف لا وآلاف الموقوفين يقبعون داخل سجون مكتظّة لا تتناسب ظروفها مع المعايير القانونية، وهم يطالبون بمحاكمتهم فوراً أو إخلاء سبيلهم بسند إقامة وبكفالة مالية. يسأل عدد منهم «كيف يمكن لموقوفين بقضية حساسة وخطيرة أن يُخلى سبيلهم بينما نحن نطالب بذلك منذ سنوات ولا يستجاب لنا؟ ألا يُطبّق علينا القانون والمعاهدات كما يُطبّق عليهم؟».
علامَ تنصّ إذاً القوانين والمعاهدات الدولية عن مدة التوقيف وإخلاء السبيل؟ (راجع صفحة 2، «قانونية إخلاء سبيل جميع الموقوفين»)
تتقدّم المعاهدات الدولية على أحكام القانون الداخلي، عملاً بمبدأ تسلسل القواعد القانونية (مبدأ هرم القواعد القانونية، هرمية كيلسن-Pyramide de Kelsen). فيعود تطبيق المادة 9 من العهد الدولي الخاص على كل موقوف مهما كانت جريمته طالما لم تتم محاكمته وتخطّت مدة توقيفه احتياطياً بحسب القانون.
أما بالنسبة إلى إخلاء السبيل، فيتقدم المدّعى عليه أو وكيله بطلب إخلاء السبيل إلى قاضي التحقيق قبل صدور القرار الظنّي، أي لا مدة محددة لتقديم طلب إخلاء السبيل.
يجوز للقاضي أيضاً إخلاء سبيل المتهم شرط أن يتضمّن الطلب كفالة (المادة 114 والمادة 115 من قانون أصول المحاكمات الجزائية). وإذا لم يتقدم المدعى عليه أو وكيله بطلب، يُخلى سبيله بحكم القانون في حالات معيّنة كالجريمة من نوع الجنحة التي لا تتجاوز عقوبتها الحبس مدة سنتين للبناني وهو مقيم في لبنان، ويُخلى سبيله بعد انقضاء خمسة أيام على تاريخ توقيفه. شرط ألا يكون قد حُكم عليه سابقاً بعقوبة جرم شائن أو بعقوبة الحبس مدة سنة على الأقل (مادة 113 من قانون أصول المحاكمات الجزائية).
موقوفون يناشدون القضاء
تناقلت أخيراً مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لموقوفين يعلّقون مشانقهم مطالبين بإخلاء سبيلهم ومحاكمتهم أو بعفو عام. صراخ وتهديد ربما «فشّة خلق» لا أكثر، واعدين بالتصعيد إذا لم يُوافَق على مطالبهم.
نعرض في ما يلي آراء وردّة فعل بعض السجناء عند تلقيهم خبر قرار إخلاء سبيل موقوفي انفجار المرفأ. وقد تحمّس بعض السجناء الغاضبين للتعليق على الموضوع وللإفصاح عمّا في داخلهم عبر الصراخ وإطلاق الشتائم. وبدا أن الظلام لا يفارقهم داخل نفق معاناتهم بانتظار محاكمتهم.
«شي معيب والله، طلّعوا عميل وهرّبوه، وواحد موقوف بملف المرفأ طلع وسافر لأن معه جنسية أميركية، الجنسية الأميركية صارت أقوى من القانون؟»، يسأل طارق، الموقوف في السجن المركزي في رومية. ويضيف بنبرة عالية «نحنا شو عاملين لنتوقّف كل هالفترة؟ حياتنا وأهلنا تدمّروا ويلي توقّفوا بانفجار المرفأ صاروا برا السجن؟». طارق الذي أُلقيَ القبض عليه من قِبل الضابطة العدلية بشبهة الانتماء إلى جماعة إرهابية، عازياً ذلك -بحسب قوله- إلى انتماء أحد أفراد عائلته إلى التنظيم نفسه. ومنذ سنوات وهو يحاول المطالبة بإجراء محاكمة للبتّ بملفه بعد ردّ طلب إخلاء سبيله، ويشكو من عدم تجاوب المحامي لمساعدته. والجريمة التي اتُّهم طارق بارتكابها هي جريمة الإرهاب بحسب المادة 315 من قانون العقوبات اللبناني التي حُددت عقوبتها بأشغال شاقة لخمس سنوات. يمكن للقضاء بموجب المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أن يرفض إخلاء سبيله كونه قد تم توقيفه بجناية الإرهاب، ولكن عملاً بالعهد الدولي يفترض أن يُخلى سبيل طارق مثل موقوفي انفجار المرفأ.
أما بلال، فهو موقوف منذ أربع سنوات في سجن رومية بتهمة الاتجار بالمخدّرات، ويطالب القضاء البت في ملفه ومحاكمته «ما على أساس القضاة فكّوا اعتكافهم، ليش بعد ما عيّنوا جلسات؟ عندهم كتير ملفّات؟ طيب فجأة بليلة ما فيها ضو قمر بيطلع قرار بإخلاء سبيل موقوفي انفجار جريمة بحجم مرفأ بيروت ونحنا من بعد ما انْبَحْ صوتنا ما حدا رادد علينا، بس حاكمونا نحنا، دينونا واحكمونا». فإذا لم يُحاكم ألا يعود للسلطات المختصة إخلاء سبيله ومنعه من السفر؟ يشكو السجين لـ"لقوس" أن المحامي الموكل في قضيته لا يتجاوب مع طلباته.
بصوت مليء بالغضب يقول رامي: «كيف هيك؟ ليش هني بيحق لهم إخلا سبيل ونحنا لا؟ أنا موقوف لأنّي سرقت ببقى سنتين بالسجن من دون ما يخلى سبيلي؟ شو إذا فجّرت بيروت بأكملها كنت طْلعت يعني؟». ويتساءل عن كيفية البت بإخلاء سبيل الموقوفين في ملف انفجار المرفأ قبل أيّ ملف آخر. الفكرة ذاتها يرددها لأكثر من ثلاث دقائق مع العديد من الشتائم للجسم القضائي. «عدالة مين؟ المصاري والتدخلات الأجنبية، هيدي هي العدالة بلبنان». نتيجة جريمة السرقة عبر النشل (جنحة) المنصوص عليها في المادة 636 فقرة 2 من قانون العقوبات، لا يمكن أن تتعدى مدة التوقيف شهرين. لذا كان من المفترض إخلاء سبيله عام 2021.
«ممنوع نحكي بعفو عام بتاتاً، بس عفو قضائي لأسباب سياسية وطائفية معليش بتمرق». يقول طلال، أحد موقوفي سجن القبة. يدخل عامه الثاني وراء القضبان بتهمة السرقة بحسب قوله. «ما بقى إستغرب شي بهيدا البلد، كيف ممكن تفكر إنه في عدالة وإنصاف هون وبتشوف ناس موقوفين بتدمير العاصمة أخليَ سبيلهم وواحد معه جنسية أميركية بيسافر بكل عين وقحة، وأنا لا محاكمة عم يطلعلي ولا إخلاء سبيل والمحامي كل ما إحكي بيرِد: إن شاء الله خير، أيّ خير يا عمي!». يدعو طلال إلى النظر في طلب إخلاء سبيله، إذ إن جناية السرقة المعاقب عليها في نص المادة 639 فقرة 1 كون السرقة تمّت عبر الكسر والخلع لأحد المباني المأهولة، لا تتعدى مدة التوقيف الستة أشهر. فكان على السلطات المختصة إخلاء سبيله منذ عام 2022 أي ستة أشهر بعد توقيفه.
كيف يمكن تفسير إخلاء سبيل موقوفين في أهم ملف في لبنان من قِبل القضاء، ويُغض النظر عن موقوفين في ملفات عديدة أخرى تعود لجرائم ليست بفظاعة وخطورة تفجير مرفأ بيروت؟ يُجيب فراس أحد موقوفي سجن زحلة منذ عام 2019 على سؤاله بنبرة لا تقل غضباً عن باقي زملائه في السجن «واسطة وطائفية مثل كل شي بِهالبلد. واحد معه جنسية بلد أجنبي صار عنده واسطة والباقي تابعين لطائفة معيّنة كمان بدهم يطلعوا، شو لكن؟». يضيف فراس معبّراً عن إحباطه وغضبه الشديد عند تلقيه خبر إخلاء السبيل كونه -بحسب قوله- متهماً بجريمة إطلاق نار وسرقة في بيروت بينما هو من سكان طرابلس، مناشداً القاضي محاكمته أو النظر في إخلاء سبيله.
تنصّ المادة 638 من قانون العقوبات في فقرتها الخامسة على معاقبة جريمة السرقة عبر استعمال السلاح، بالأشغال الشاقة من ثلاث إلى عشر سنوات. فإذا لم يتقدم فراس بطلب إخلاء سبيله أو لم يُوافَق على طلبه، لا يجوز قانوناً توقيفه لمدة تتخطى الستة أشهر.
يتمنى سامي، أحد سجناء سجن رومية المركزي، أن يستحصل كما الآخرين على «واسطة» لإخلاء سبيله بعد اتهامه بجريمة ينفي ضلوعه فيها، وهي الاتجار بالمخدرات، منذ خمس سنوات دون أيّ محاكمة. "أكلتها أوّل بوكس لما عرفت إنو أخلوا سبيل موقوفي تفجير المرفأ وثاني بوكس لما شفت إفراج عن 13 موقوفاً من ملف مغارة النافعة، بستغرب كيف البعض بعدهم بيحكوا عن عدالة وإصلاح القضاء وتسريع المحاكمات، ما بدي ولا وحدة منهم، يا بغيّر طائفتي ليطلعوني برا السجن يا بدبّر شي واسطة مثلهم ليخلوا سبيلي. غير هيك ما رح إطلع أو إتحاكم بحياتي».
يقول سامي، وتتغير نبرة صوته من غضب إلى حزن، إنه دفع مبالغ طائلة لأحد المحامين للنظر في ملفه لكن دون جدوى، وتستمر الوعود بالمحاولة قدر المستطاع (مع دفع الأموال مسبقاً) للمساعدة. كان على السلطات المختصة إخلاء سبيل المتهم سامي منذ عام 2018، لأنه قانونياً، لا يمكن أن تتعدى مدة توقيفه الستة أشهر.
قرار إخلاء سبيل موقوفي انفجار ملف مرفأ بيروت استند إلى نص قانوني دولي. لكن ماذا عن باقي الموقفين؟ ألا تشكل استنسابية قرار إخلاء السبيل لفئة معينة في ملفات محددة ظاهرة تُفاقم من النظرة السلبية لبعض الموقوفين والسجناء إلى مبدأ القانون والعدالة؟ وقد تطاول هذه النظرة أهالي هؤلاء الموقوفين والسجناء وتتوسّع الدائرة لتشمل فئة أوسع من الناس.