Décembre
كانون الأول
27
2024
27
- كانون الأول
- 2024
رأي وتحليل
نقاش
27-08-2022
 
مشكلة عدم تقبّل الآخر
  بشرى زهوة  

إذا كان اللبنانيون يتشاركون 93% من حمضهم النووي (راجع القوس عدد 20 آب الجاري)، لماذا يظن بعضهم أنّهم متفوّقون على الآخرين منذ الولادة؟ ولماذا يعتقدون بأن عاداتهم وطقوسهم الدينية وأعيادهم أفضل من عادات الآخرين وطقوسهم وأعيادهم؟ تقبّل الآخر لا يعني أنّ على الفرد أن يتقبّل سلوكيات الآخرين الخاطئة، وإنّما يتقبّل الآخرين كبشر لهم الحق في الحياة والاحترام بغض النظر عن سلوكيّاتهم. وإن كان يُطرح في تحديد المشكلة سؤال: من هو الآخر؟ فإنّه ينطوي بدايةً على سؤال أهم: من نحن؟

تقبل الآخر سمة من السمات الحضارية الغائبة عن معظمنا في لبنان. فالتقبّل يشمل الآخر كما هو؛ بفروقاته واختلافاته العرقية والفكرية والسياسية والدينية. إذ أنّ البعض يتّبع مبدأ «إمّا معنا أو علينا»، وينعكس عدم تقبّلهم للآخرين المختلفين بشكل غير حضاري نتائج وخيمة، تؤدي إلى شجارات أو عداوات، وفي بعض الأحيان إلى ارتكاب جرائم. كما أنّ عدم التقبّل يمكن أن يكون عقبة أساسية أمام إحقاق الحق؛ وتحديدًا في المؤسسات القضائية التي قد لا تقوم بدورها بشكل سليم، وفقًا للأحكام المسبقة الموجودة لدى البعض - شئنا أم أبينا - خاصة أنّ القضاء في لبنان يُعاني من تغلغل السلطة السياسية فيه، ما قد يُعيق مسار التحقيقات، أو لربّما قد تصدر أحكام تنصف «الآخر» المقبول من قِبل القاضي، وتظلم الآخر غير المقبول أو «المختلف». ولا ننسى في هذا الشأن التمييز الحاصل على أساس الدين والشكل واللباس، الذي يمنع المرأة المحجّبة من دخول سلك القضاء، رغم أنه يتعارض مع حرية المعتقد الذي ينص عليه الدستور اللبناني (المادة 9)، وكذلك المادة (12) التي تنص على أنّ «لكلّ لبناني الحق في تولّي الوظائف العامة». (راجع القوس عدد 28 أيار الماضي)
الأحكام المسبقة في مجتمعنا هي معرفة مغلوطة، غير منصفة، وقائمة على السطحية والظلم، فهل من سبيل وأمل للتحرر منها؟

قبول الآخرين معناه تبادل الاحترام والمعاملة بعدل وانصاف، إذ أنّ العدل يحفظ المجتمعات ويصونها من التفكك، والإنصاف صفة تقي الأفراد من الظلم، من دون حاجة إلى الذّوبان في الآخر، أو إلغاء الذّات أو الهويّة أو الثّقافة أو الإيمان، وذلك على مبدأ قوله تعالى في القرآن: {وجَعلْناكُمْ شعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفوا} [الحجرات:13]. ومعنى تعارفوا، أي أن يحصل بينكم تبادل في المنافع والأفكار والثّقافات. فالآية تدلّ على أنّ الاختلاف غنى، وأنّ تعدّد المجتمعات والبشر هو إرادة اللّه، والآية واضحة في قوله تعالى: {ولوْ شاءَ ربّكَ لجعلَ النّاسَ أمّةً واحدةً} [هود: 118]. كذلك فإن إظهار اللطف هو مظهر من مظاهر تقبّل الآخرين، فقد قيل عن السيد المسيح أنه: لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ في الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ (متى 19:12). 

وإذا كانت الكتب السماوية عزّزت أهميّة تقبّل الآخر واحترام اختلافه، ما المانع لدى الناس باختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأجناسهم في لبنان لأن يتقبلوا بعضهم بعضا؟

كيف تُكرّس المواثيق الدولية والدّستور اللبناني حق حرية التعبير وحرية الآخرين؟

لكلِّ شخص حقُ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود. كما حدّدت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنّته الجمّعية العامة للأمم المتّحدة بتاريخ 10/12/1948، كذلك البند الأول من المادة 20، الذي أشار إلى أنّه «لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية». 
كما أكّدت المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمدته الجمّعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16/1/1966 وانضمّ إليه لبنان بتاريخ 3/11/1972، أنّ لكل إنسان حق اعتناق الآراء دون مضايقة. ولكل إنسان حق في حرية التعبير.
وقد تبنّى الدستور اللبناني في مقدّمته إلتزام لبنان مواثيق جامعة الدول العربية ومواثيق الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان. وأكّدت المادة 8 منه أنّ الحریة الشخصیة مصونة وفي حمى القانون ولا یمكن أن یقبض على أحد أو یحبس أو یوقف إلّا وفاقًا لأحكام القانون، ولا یمكن تحدید جرم أو تعیین عقوبة إلا بمقتضى القانون. 

لحرية التعبير ضوابط وضعتها القوانين يقتضي مراعاتها كي لا تُرتكب الجرائم نتيجة لعدم تقبّل الآخر

لكن، رغم إلتزام لبنان بأحكام الدّستور والمواثيق الدولية التي تكّرس لكل فرد أو مجموعة حقّ التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم بحرّية، إلّا أنّ ما يجري على وسائل التواصل الاجتماعي وداخل المنصات الإعلامية يسير في اتجاه معاكس، حيث تزداد مشاهد عدم تقبّل الآخر ورفضه. مثال على ذلك ما حدث بعدما جالت تجمّعات أنشودة «سلام يا مهدي» المناطق، فوُجّهَت إلى منظّمي هذه التجمعات اتهامات بتغيير وجه لبنان الحضاري، وأدلجة عقول الأطفال، وكأن ممارسة الشعائر الدينية من دون إلحاق الأذى بأحد أمرٌ مرفوض أو أنه حكرٌ على طائفة محددة. علماً أن المادة 9 من الدستور اللبناني تؤكد أنّ حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأدیتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جمیع الأدیان والمذاهب وتكفل حریة إقامة الشعائر الدینیة تحت حمایتها على أن لا یكون في ذلك إخلال بالنظام العام، وهي تضمن أیضًا للأهلین على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصیة والمصالح الدینیة.

الميم في لبنان

تحظر المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني: «إقامة علاقات جنسية مع ما يخالف قوانين الطبيعة ويعاقب مخالفها بالسجن لمدة سنة». ورغم المطالبات بإلغاء هذه المادة، تصرّ الدولة على الاحتفاظ بها، علماً أن «مجتمع الميم» (مثلي، مزدوج، متحول ومتحير) صار يمثل شكلًا جديدًا من التحديات التي تفرض تصادمًا بين أفراده والحكومة اللبنانية التي دخلت في مشاحنات غير مسبوقة مع المنتمين والمنتميات إلى هذه الفئة. ففي تموز الفائت طلب وزير الداخلية بسام مولوي من القوى الأمنية اتخاذ إجراءات صارمة لمنع تجمّعات مجتمع الميم خلال شهر الفخر (برايد) الذي يحتفل به المثليون في تموز من كل عام في أنحاء العالم. وبعد تعرّض الوزير لانتقادات من نشطاء، برّر موقفه بأن مثل هذه التجمعات تنشر «الانحراف» الجنسي وتتعارض مع القيم الدينية في البلاد.
«بالنسبة لي، هذا الأمر يندرج في خانة الحرية الشخصية، ولست أنا من أحاسب أو أطلق أحكاماً على هذه الفئة» تقول  هزار حيدر، وهي أستاذة في جامعة كيبيك - كندا، متخصّصة في الأخلاقيات البيولوجية (Bioethics).

وحول نقطة الانطلاق لتقبّل هذا المجتمع، تُجيب: «هؤلاء أشخاص منبوذون من المجتمع ومن الصعب جدًا تقبّلهم بسهولة. لكنّ الحل ونقطة الانطلاق لنتعايش بسلام أن يبدأ كل فرد بنفسه. الحل فردي أكثر مما هو مجتمعيّ. وفي حال سرت العادة بالفردية من الممكن أن نُصبح مجتمعاً مُتقبِّلاً نوعًا ما بعد فترة من الزمن».
وحول فرضية عدم التقبّل النهائي للمثليين، تجيب حيدر أنّ بعض الأشخاص لن يتقبّلوا مطلقًا فكرة اكتشافهم أنّ أحد أصدقائهم أو زملائهم مثلي الجنس. وفي مثل هذه الحالة من الأفضل أن يكون الشخص صريحاً بعدم تقبّله للآخر، وأن يصارحه مباشرة ويبتعد عنه من دون التشهير به أو جرحه أو أذيته». وتُشير حيدر إلى نقطة مهمة، وهي عدم إجبار المثليين على الزواج للتماشي مع المجتمع والتوافق مع معاييره، وخوفًا من «الفضيحة»، وذلك تفاديًا لدمار عائلة بأكملها في حال اكتشف الأمر لاحقًا. 
في النهاية تؤكّد حيدر أنّ «أشكال التنمّر والتجريح مرفوضة في حال عدم تقبّل هؤلاء  (...). من الممكن أن يكون أمراً طبيعياً - بيولوجياً - أو خياراً شخصياً، أو حتى ظروفاً معيّنة. نحن بالتالي لا نعلم كل ظروف الإنسان الآخر. وكما يقول إحسان عبد القدوس في مقدمة كتابه بئر الحرمان: اسألوا الظروف.. لا تسألوا الناس».

الحجاب فرض أم حرية شخصية؟
«ليس الحجاب فريضة إسلامية تخص الإسلام وحده. فرض تغطية رأس المرأة يعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام، وكان عادة منتشرة في المجتمعات المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط». بهذا القول للباحثة الجزائرية في الفكر الإسلامي، رزيقة عدناني، تبدأ روان (38 عامًا) كلامها حول استهجان الناس للحجاب، واعتباره مسيئًا للمرأة. تنتمي روان إلى عائلة مسلمة فتياتها غير محجّبات، لكنّها اختارت الالتزام بالحجاب خلال دراستها في فرنسا، وفي خضّم أزمة منع الحجاب وضجّة «البوركيني» على الشواطىء، فازداد تمسّكها به: «أهلي خافوا عليي من الإسلاموفوبيا، بس أنا ما اهتمّيت، أخذت قراري ومبسوطة فيه». 
عادت روان إلى لبنان منذ ثلاث سنوات، وتعمل أستاذة في العلوم الجرثومية في إحدى الجامعات، ولا تزال تزور فرنسا للعمل على أبحاث مع أساتذتها وبطلب منه، في وقت تشير الى أنّ كثراً من زملائها الأساتذة في لبنان يحاولون الاستخفاف بها بسبب حجابها. وتختم: «أهدي أبحاثي إلى كلّ شخص يقول إن الحجاب يحجّب عقل المرأة».
أمّا عايدة (45 عامًا)، وهي تاجرة ملابس نسائية، فقد عاشت في بلد أفريقي مع زوجها «المتحرر» الذي كان يجبرها على ارتداء ملابس مكشوفة: «أطول تنّورة كان يلبّسني ياها كانت شبر كرمال يشوف حاله قدام أصحابه».
أكثر ما يثير استياء عايدة أن زوجها لم يكن يتقبّل فكرة أنّها مختلفة عنه، وترغب في أن تلبس لباسًا محتشمًا. «تحجّبِت وهون كانت المصيبة بالنسبة له». جنّ جنون زوجها، فراح يجبرها على التواجد في أماكن تُسيء للحجاب كالنوادي الليلية والحفلات الراقصة الصاخبة. لكنّها ازدادت تمسّكًا بالحجاب وكانت نهاية ذلك أنّها طلبت الطلاق. عادت إلى لبنان مع أولادها الثلاثة وأصبحت المعيلة الوحيدة لهم، بعد أن كان هذا شرطه للطلاق. «من بعد ما طلّقني قال لي: خلّي الحجاب ينفعك». تؤكد عايدة أنّها ليست نادمة أبدًا، رغم معارضة أهلها لهذا القرار أيضًا. 
في المقابل تقول مروى (37 عامًا) إنّها لا تزال تعاني من نظرات التأنيب بين أقاربها بعد خلعها الحجاب قبل عشر سنوات. «كنت اشلحه برّا البيت، وقبل ما أوصل إلبسه». تأسّف لأن والدها أجبرها بقسوة على ارتدائه في عمر الـ 10 سنوات من دون أيّ مقدّمات مسبقة أو تهيئة للأمر أو حتى إفهامها السبب وراء ذلك. وهذا ما ولّد لديها نقمة جعلتها تتخلّى عنه نهائيًا بعد وفاة والدها.
السؤال الذي يُطرح في هذا الشأن: لماذا يُهاجم فقط من يفرض الحجاب على ابنته أو زوجته، ولا يُكترث بِمن يفرض خلع الحجاب أو يفرض نوع لباس معيّناً لا ترضاه المرأة؟ هنا تُصبح الحرية بعين واحدة.