في خضمّ الازمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمعيشية في لبنان، تساور محدودي الدخل مخاوف إضافية. إذ يعيش سكان الاحياء الشعبية والفقيرة في ظروف محفوفة بالمخاطر بسبب خطر انهيار المباني المتداعية فوق رؤوسهم، في ظل عدم قدرتهم على الإخلاء وإيجاد بدائل، وفي غياب أي دعم من الدولة.
ليس شرطاً ان يكون «قِدم» المباني دائماً هو سبب انهيارها. إذ أن الأخطاء في التخطيط الهندسي، مثلاً، أو في تشييد المبنى، وغيرها من العوامل كالكوارث الطبيعية والانفجارات، يمكن ان تتسبّب في الانهيارات، وقد تكشف الآثار الموجودة في الأنقاض عن تدخل جنائي سرّع الانهيار.
التحقيقات الجنائية الهندسية في أسباب انهيار المباني مهمة للغاية لمنع الإفلات من العقاب وحماية الأرواح. الكشف الحسي الدقيق وجمع الأدلة والتحقق من الخطأ والعوامل التي ساهمت في الانهيار، تفتح نافذة من الفرص للنظر في طرق جديدة لجعل المباني أكثر أمانًا ومنع الانهيارات في المستقبل.
يمتلك رامز مبنى متصدّعاً وآيلاً للسقوط في بيروت، لكنه مصنّف «أثرياً» ما يمنعه من هدمه وإنشاء مبنى جديد مكانه لاستثمار العقار بما يعود عليه بأرباح أكبر. ورغم إمكانية ترميم المبنى وإعادة تدعيمه، يرى رامز أن مصلحته تكمن في «جعل المبنى ينهار».
التحقيقات الجنائية الهندسية
تسعى التحقيقات الجنائية الهندسية في انهيارات المباني إلى فهم مسار الأحداث التي أدت إلى الانهيار. يمكن أن تحدث انهيارات المباني لأسباب عدة، منها أن وجود نوع من الفشل الهندسي يؤدي إلى عدم قدرة الهيكل على دعم الحمل كأن تكون الأساسات ضعيفة، أو بسبب سوء تنفيذ المشروع باستخدام مواد أرخص لخفض الكلفة، أو لأن مواد البناء المستخدمة غير قوية بما يكفي أو تحتوي على شوائب، أو بسبب خلطها بشكل غير صحيح ما يؤدي إلى ضعف الخرسانة. وإلى ذلك، هناك عوامل أخرى كالكوارث الطبيعية والانفجارات أو احتمال وجود «فعل جنائي» سرّع في انهيار المبنى المتصدع.
لذلك، فإن مهمة التحقيقات الجنائية الهندسية هي الكشف عن الإخفاقات الهندسية الأساسية التي تسببت في الانهيار، وتقييم العوامل التي يمكن ان تكون قد سرّعت فيه.
يطرح المهندسون الذين يجرون تحقيقات في المباني المنهارة أسئلة عدة: كيف ولماذا فشل الهيكل؟ هل كانت هناك مؤشرات على أن الفشل الهيكلي كان وشيكًا؟ إذا كان الأمر كذلك، في أي وقت ظهرت تلك المؤشرات؟ ومن المسؤول عن كل تفصيل ساهم في الانهيار؟ ومن المسؤول بشكل عام؟
تتيح الإجابة على كل من هذه الأسئلة للمحقق ليس فقط فهم سبب انهيار المبنى، بل وتقديم توصيات حول كيفية تجنب سيناريوهات مماثلة في المستقبل.
للإجابة على هذه الأسئلة، قد ينظر المهندس الجنائي بشكل خاص في عتبات القوة والحمل. اذ أن لكل مبنى حد تحميل خاصاً به، وفي حال عدم الالتزام به، قد يتسبب في أضرار هيكلية وغالبًا ما يؤدي إلى الانهيار. لذلك، تنظر التحقيقات الجنائية في الأحمال المتوقعة، وما إذا كان ذلك دقيقًا، وما إذا تم تشييد المبنى بنجاح لتحمل هذه الأثقال. كما تنظر في ما إذا كانت إجراءات الصيانة كافية للسماح للمبنى بمواصلة مقاومة هذه القوى.
وتركز التحقيقات أيضاً على النظر في مسارات الأحمال (تنتقل كل القوى التي تؤثر على المبنى عبر الهيكل في مسار ينتهي في التربة الداعمة، وتسمى هذه المسارات مسارات الحمل). إذ يجب أن تكون كل العناصر داخل مسار الحمل كافية لدعم الحمل ونقله إلى العنصر التالي. وقد تكشف التحقيقات عن روابط ضعيفة في مسار التحميل ربما تكون قد ساهمت في الانهيار.
علامات الانهيار
بشكل عام، يمكن في كثير من الأحيان الحؤول دون انهيار المباني المتصدّعة، إذ أنها تعطي إشارات وعلامات قبل أعوام من الانهيار الفعلي. الا ان الإشارات تختلف بين المباني بسبب عامل الزمن. فالمباني القديمة هي عبارة عن منشآت بلا «أعمدة»، يجري فيها تحميل الاوزان على الجدران، ولا تحتوي على جسور من الخرسانة (الباطون المسلح)، بل على جسور حديدية (IPN).
لذلك، فإن التصدع في هذا النوع من المباني يظهر بوضوح على الجدران على شكل خطوط عامودية تتجه من الأعلى الى الأسفل، وتبدأ هذه الشقوق بالتوسع مع مرور الوقت. كما تظهر التشققات على الارضيات، قبل أن يبدأ انهيار بعض الأجزاء من الواجهات، خصوصاً اذا كانت الجدران من الأحجار الرملية. وتحدث هذه التشققات قبل أعوام من الانهيار الفعلي للمبنى. ويسرّع غياب الصيانة (كمعالجة التشققات) والعوامل الطبيعية كالأمطار والرياح في حدوث الانهيار.
اما في المباني الحديثة، فتظهر تلك الإشارات على شكل تشققات مائلة في الجدران، وانحناء في الاسقف و«ميلان» في مستوى الشرفات، وتكسّر في زوايا الاعمدة وبروز الحديد. في هذه الحالة على المهندس الجنائي اخذ عيّنات من باطون الاعمدة والجسور للتأكد من نوعية الباطون وقوته، والاستعانة بالخرائط الانشائية للبناء، خصوصاً إذا كان هناك زيادة في عدد الطوابق عن الدراسة الأولى للمشروع (زيادة في الوزن على الاساسات والاعمدة).
ومن خلال الكشف الحسي الدقيق على هذه المباني ومعاينة الاضرار والتصدعات والتشققات يمكن للمهندس الجنائي تحديد «المدة الآمنة» لاستعمال المبنى وتقييم ما اذا كان يحتاج الى ترميم او تدعيم او هدم.
مرور الزمن ...
في دول العالم، يتم النظر إلى عامل «عمر المبنى» بشكل دائم، إذ يتم إخلاء المباني التي يزيد عمرها على سبعين عاماً بغية هدمها وإعادة بنائها حتى لو لم تكن متصدعة. أما في لبنان، فهناك غياب كامل لدور الدولة في الصيانة المستمرة للمباني خصوصاً تلك الموجودة في الاحياء الشعبية، أو المتضررة من الحرب الاهلية. فبرج المر، مثلاً، مبنى قديم وعال، وأي انهيار فيه يمكن ان يؤثر على الأبنية المحيطة به، لذلك من الضروري الكشف الدائم وتقييم وسائل الترميم والتدعيم المناسبة.
تحديد وقت الانهيار
يمكن للمهندس الجنائي، بعد الكشف الحسي على المبنى وأخذ عينات مختلفة، ان يتوصل الى توصية بـ:
- اخلاء المبنى فوراً.
- اخلاء المبنى خلال مدة معينة لتدعيمه او هدمه.
ولأن المهندس الجنائي قادر على تحديد «المدة الآمنة» لاستعمال المبنى، لذلك فإن حدوث الانهيار قبل الفترة المحددة، يمكن ان يثير الشك في حدوث تدخل جنائي لتسريع الانهيار. ومن تلك النشاطات الجنائية:
- تعمّد إدخال كمية كبيرة من المياه الى داخل المبنى والطوابق عن طريق كسر خزانات المياه مثلاً.
- استعمال آلات تحدث ارتجاجات واهتزازات قرب المبنى او داخله.
- استعمال مواد كيميائية تسبب اهتراءات قوية.
- التسبب في اندلاع حريق.
آثار الحطام
يمكن، في بعض الأحيان، ان تعطي آثار الردم معطيات للمهندس الجنائي عن أسباب الانهيار. كوجود آثار حريق مثلاً، أو تسرب قوي للمياه، أو مواد كيميائية سرّعت اهتراء الحديد كصب « الاسيد» على الجسر.