Novembre
تشرين الثاني
21
2024
21
- تشرين الثاني
- 2024
القضية المركزية
جرائم الاحتلال
15-10-2024
 
ما لم يكن متوقّعاً
  عمر نشابة  

لم يكن ما حدث متوقّعاً بالنسبة إلى كل من قرأ أدبيات الأوروبيين والأميركيين عن حقوق الإنسان وكرامة البشر. ففي الكتب والمنشورات الأكاديمية، كما في الدساتير والقوانين والقواعد الغربية، تشديد على احترام قيمة الإنسان وحقه في الحياة الكريمة. ولأن ضمان الحياة الكريمة يتطلّب موارد غير متوفرة، ركّزت المواثيق والأعراف الدولية، التي عمّمها الغرب في نظام التربية والتعليم وفي الأوساط الثقافية والاجتماعية، على وجوب الامتناع عن بعض الممارسات التي تحطّ من الكرامة الإنسانية. ففي قاعات التدريس وعلى حلبة المسرح وشاشات التلفزيون والكمبيوتر والهواتف المحمولة وخلال المؤتمرات العلمية والمهرجانات الثقافية في الغرب المسيطر على الثقافة العالمية، كلام كثير عن حقوق الإنسان أعطى بعضاً من شعوب الجنوب أملاً بمستقبل أفضل، وأقنعهم بأن مرحلة الاستعمار والاستعباد والتمييز شارفت على نهايتها. ومن لم يقتنع بذلك عُدّ متخلّفاً عن تطوّر الحضارة البشرية.
وها قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه حيث تبيّن، بكل أسف، أن المتخلّف عن تطوّر "الحضارة" البشريّة كان على حقّ. فالعالم الحضاري لا يبدو اليوم رافضاً أو حتى منزعجاً من الإبادة الجماعية وأبشع وأعنف ممارسات القمع والحطّ من كرامات البشر التي يمارسها الإسرائيلي في فلسطين ولبنان. وقد بات من الصعب اليوم تخيّل جريمة أشد أذيّة من الجرائم التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية بحق الفلسطينيين واللبنانيين.
تشمل فنون الاجرام الإسرائيلي العديد من ممارسات، كاد العالم يصدّق أنها محظورة أو أن الدول الحضارية لا يمكن أن تقبل بها أو تتساهل مع مرتكبيها لأيّ سبب كان. ومن بينها:

‌أ. ارتكاب مجازر في المستشفيات والمدارس ومراكز الإسعاف
وكان جيش العدو الإسرائيلي قد بدأ الإبادة الجماعية في غزة بارتكاب مجازر في المستشفى الأهلي المعمداني ومستشفى الشفاء، ثم انتقل الى استهداف المستشفيات الأخرى والأطباء والممرضين والمسعفين واللاجئين الى المدارس التابعة للأمم المتحدة. وفي لبنان، تلاحق الطائرات الحربية الإسرائيلية سيارات الإسعاف والإطفاء ومراكز الدفاع المدني وعمال الإغاثة وترتكب مجازر ضد العاملين في الهيئات الصحية والإنسانية.

‌ب. شنّ حرب تجويع والقتل البطيء
تمنع آلة القتل الإسرائيلية دخول المواد الغذائية والمحروقات والأدوية والمساعدات الإنسانية الى قطاع غزة المحاصَر وتقطع المياه والكهرباء عن مئات آلاف البشر. ويعاني معظم سكان القطاع من سوء التغذية ويحرمون من مياه الشرب النظيفة. كما يَحرم الجيش الإسرائيلي المستشفيات من الكهرباء المطلوبة لتشغيل التجهيزات في غرف العناية الفائقة وفي قسم حديثي الولادة وقسم غسل الكلى وغيرها من الأقسام التي يموت فيها المرضى موتاً بطيئاً بسبب حرمانهم من العلاج.

‌ج. توظيف التطوّر التكنولوجي لخدمة آلة القتل
للمرة الأولى في الحروب، استخدم الإسرائيليون تكنولوجيا التفجير عن بعد لأجهزة اتصالات مدنية ما أدى الى قتل وبتر أطراف وتضرّر عيون عدد كبير من الأشخاص لم يكونوا في ساحة المواجهة العسكرية. ويستخدم الجيش الإسرائيلي قنابل تحتوي على مواد كيميائية وقنابل عنقودية محظورة بموجب القانون الدولي في الأماكن السكنية والأراضي الزراعية.
‌د. انتهاج سياسة الدمار الشامل والتهجير والاحتلال
يخرق جيش العدو الإسرائيلي مبدأ التناسبية بشكل متكرر حيث يقوم بإحداث دمار شامل في مناطق مدنية واسعة في شمال غزة وجنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية. وخلافاً لكل الاتفاقيات والقواعد الدولية، يسعى العدو الإسرائيلي الى نقل السكان وتهجيرهم بشكل دائم من بعض القرى والبلدات سعياً للتوسع الاستيطاني في فلسطين وفي جنوب لبنان.

‌ه. الاعتقال والتعذيب والاغتصاب حتى الموت
يعتقل جيش العدو الإسرائيلي آلاف المدنيين ويجرّدهم من ملابسهم ويعرّضهم للتصوير من أجل الحطّ من كرامتهم. وتؤكد عشرات التقارير الحقوقية الموثّقة على انتشار التعذيب بأبشع الأساليب والوسائل في المعتقلات الإسرائيلية. يقوم الإسرائيليون باغتصاب السجناء بواسطة العصيّ أو الكلاب المدرّبة، بينما تتفرّج المنظمات الأوروبية لحقوق الإنسان.
هذه الممارسات الجرمية الإسرائيلية ليست حوادث متفرقة أو ارتكابات ظرفية أو مجرد هجمات عدوانية تستدعي الاستنكار من المجتمعات الحضارية الغربية، بل إن (1) كثافتها على مدى 14 شهراً وتوسّعها من غزة الى الضفة الغربية الى جنوب لبنان والبقاع والضاحية؛ و(2) عرض تفاصيلها بالصوت والصورة عبر وسائل الإعلام والإنترنت وفي العديد من تقارير منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي والهيئات الإنسانية؛ و(3) عدم توقفها أو إبطائها بعد صدور قرارات ملزمة قانونياً عن مجلس الأمن الدولي وعن محكمة العدل الدولية؛ يدلّ على انهيار القيم الحضارية بالكامل وبسرعة قياسية، أو أن هذه القيم لم تكن أساساً سوى كذبة استخدمها الغرب "الحضاري" لإقناع شعوب الجنوب بالرضوخ لمشاريع الرجل الأبيض.