تتبنى إسرائيل نظرية السلوك المبرر في الحرب والتي تتناقض مع القانون الدولي الإنساني وتُعلي من أهمية ادعاءات الضرورة العسكرية لتحقيق أهداف الحرب على حساب حماية المدنيين وتستند لتبرير جرائمها على "قواعد ليبر" من دون التصريح بذلك علنا. فما هي قواعد ليبر؟
أسس الأمريكي الألماني الأصل فرانسيس ليبر، نظريته بشأن السلوك المسموح به أثناء النزاع المسلح على اعتقاد مفاده بأنه اذا كانت الحروب ضرورية للتقدم الأخلاقي للأمم المتحضرة، وهنا تكون الحرب عادلة ضد الهمجية والظلام ولتحقيق النصر السريع في هذه الحروب الأساسية، يُسمح باستخدام وسائل الحرب التي تتضمن إلحاق أضرار جسيمة بالمدنيين. ليبر أعد مدونة سلوك الجيش الأمريكي في عهد ابراهام لينكولن في العام 1863 وقد تم اقرار القانون بأن المحاربين عليهم تحمل مسؤولية اخلاقية أمام بعضهم البعض وأمام الله بحيث ألا يتسببوا بإلحاق المعاناة للآخرين ولا التعذيب لانتزاع الاعترافات كما حظر قانون ليبر الاستعباد ولكنه سمح بالحاق اضرار جسيمة بالمدنيين والمستشفيات إذا رأى القائد أن ذلك ضروري لتحقيق نتيجة عادلة وسريعة في ظل حرب عنيفة. وقد سمح القانون أيضا بتأليم السكان ولا يتم حماية المستشفيات إلا بقدر ما تسمح به طوارئ وضروريات القتال. ولخصت المادة 29 من القانون نهجه بايجاز كلما زادت قوة الحروب كان ذلك أفضل للإنسانية على أن تكون الحروب العنيفة قصيرة.
أصبح نهج ليبر من الماضي واستبدل باتفاقيات جنيف الأربع المعتمدة منذ 1949 والبروتوكولات الإضافية لعام 1977. إن القانون الدولي المعاصر يرفض بشكل قاطع الفكرة القائلة بأن الحرب العادلة تسمح بحرية إلحاق الأذى بالمدنيين ويسمح فقط لاعتبارات الضرورة العسكرية بالانتصار فقد ضمن حدود وقواعد أكدت عليها اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأنه لا يوجد شرط ضمني في الاتفاقيات من شأنه أن يعطي الأولوية للمتطلبات العسكرية . في أوقات النزاع، تعرف الضرورة العسكرية على أنها المفهوم الذي يستخدم لتبرير اللجوء إلى العنف. ويحظر قانون النزاع المسلح أي عنف أو تدمير لا تبرّره الضرورة العسكرية. ولا يكون استعمال القوة المسلحة مشروعًا إلا عند محاولة تحقيق أهداف عسكرية محدّدة، وبشرط أن يبقى ضمن إطار مبدأ التناسب. وعلى العكس من ذلك، تنتفي الضرورة العسكرية في استخدام القوة المسلحة إذا ما بدا أن العنف والتدمير كانا:
- غير ضروريين - حيث لم يرتبط الهدف أو الضحايا بهدف عسكري محدّد.
- غير متناسبين - لم تكن الميزة العسكرية متناسبة مع الأضرار المصاحبة التي تصيب المدنيين.
- عشوائيين - الهجوم لم يميّز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية.
- يهدفان إلى نشر الرعب بين السكان المدنيين.
منذ بدء العدوان الهمجي على غزة والآن على لبنان، يدعي الإسرائيليون أن حربهم هي حرب وجود وأنها حرب ضد الإرهاب والبربرية وأنهم يدافعون عن الحضارة والنور وأن حربهم العنيفة هي مبررة لأنهم يقاتلون محور الشر. كذلك يؤكد الإسرائيليون أن حربهم ستكون سريعة وقصيرة الأمد. لا يذكر الإسرائيليون اليوم أنهم يطبقون قاعدة ليبر ولكن تفسيراتهم العلنية تعكس نهجه في التعامل مع الأذى الذي يلحق بالمدنيين في الحرب وقد تفسر بعض سلوكياتهم. فهم دائما يبدأون تقريبا بعدالة قضيتهم وأن حربهم هي حرب وجود وضد قوى الظلام والبربرية وأنهم يدافعون عن قيم الحضارة وذلك لتبرير همجية سلوكهم العسكري والمجازر التي يرتكبونها والحاجة الى استئصال التهديد وفي الوقت نفسه يؤكدون الحاجة إلى الفوز بسرعة.
إن سلوك الجيش الإسرائيلي يتنافى وينتهك قاعدة التناسب المدونة في المادة 57 من البورتوكول الأول لاتفاقيات جنيف التي تحظر الهجمات الي تسبب خسائر عرضية في أرواح المدنيين أو إصابتهم أوإلحاق الضرر بالأعيان المدنية التي من شأنها أن تكون مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة . إن القانون الدولي يوجب مبدأ التناسب في العمليات الحربية ويعني ذلك أن مع كل ضربة معينة لا يمكن أن يكون الضرر الجانبي غير متناسب مع الميزة العسكرية المتوقعة. والميزة العسكرية في الهجمات الإسرائيلية كما تدعيها هي تدمير الأنظمة "الإرهابية" كما يسميها العدو الصهيوني ومنع حدوث 7 أكتوبر جديد. وهنا فإن الميزة العسكرية تبرر إلحاق الضرر بالعديد من المدنيين في غزة ولبنان أثناء الهجمات فإن هذا لا يشكل بالضرورة ضررا عرضيا مفرطا وبالتالي لن تكون الهجمات غير متناسبة وغير قانونية وذلك وفق التفسيرالإسرائيلي لمبدأ التناسب! وجاء خطاب وزيرة خارجية ألمانيا في العاشر من أكتوبر الفائت في جلسة البرلمان الاتحادي الألماني ليؤكد على مشروعية السلوك الإسرائيلي في استهداف المدنيين لتحقيق هدف عسكري وتثبيت التفسير الصهيوني لقاعدة التناسب، بالقول "إن الدفاع عن النفس لا يعني فقط مهاجمة الإرهابيين، بل تدميرهم أيضاً. وعندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس، خلف المدارس، تفقد الأماكن المدنية وضعها المحمي لأن الإرهابيين يسيئون استخدامها ولهذا السبب أبلغت الأمم المتحدة بوضوح أن المناطق المدنية قد تفقد وضعها المحمي بسبب تعرضها للإساءة من قبل الإرهابيين". ان نهج ليبر واضح جدا في سلوك إسرائيل العسكري وفي خطاب الوزيرة الإلمانية. مثال على ذلك قصف منطقة المواصي الذي كان يؤوي 80 الف فلسطيني في منطقة مكتظة كان الهدف هو القائد محمد الضيف وقد أدى القصف إلى استشهاد 90 مدنيا اما التبرير الإسرائيلي فتمثل في أن الهدف يبرر سقوط هذا العدد من الضحايا. فهل ستنجح إسرائيل في جعل النسخة الإسرائيلية من التناسب مقبولة بين الدول؟ وهل سنكون امام قوانين نزاع مسلح تبرر الإبادة بدلا من منعها؟
يطرح خبراء في القانون الدولي أنه إذا قبل العالم الطريقة التي تفسر بها إسرائيل القانون الدولي الإنساني ومبدأ التناسب والضرورة العسكرية فإن الإبادة الجماعية مستقبلا ستصبح مبررة . فالاستراتيجية المتبعة الان من قبل إسرائيل والدول التي لا تدين سلوكها العسكري، هي أنه إذا فعلت شيئا لفترة طويلة بما فيه الكفاية فإن العالم سيقبله لان القانون الدولي يستند على فكرة أن الفعل المحظور اليوم سيصبح مسموحا به إذا نفذته دول على نحو كاف، وبعبارة أخرى فإن الطريقة التي يُحسب بها التناسب لا يحددها قانون الاخلاق بل المعايير والأعراف التي أنشأتها الجيوش وهي تبين اشكالا جديدة واكثر فتكا في كثير من الأحيان لشن الحرب . لذلك بينما تدمر اسرائيل غزة وتقتل شعبها فإنها تحاول إعادة صياغة او انشاء معايير صنع الحروب وتغيير تفسير قوانين الحرب بشكل كبير .
سلوك إسرائيل العسكري ينتهك أيضا القانون الأمريكي
إن هجمات إسرائيل لاتثير مخاوف جدية حول انتهاك إسرائيل للقانون الدولي فحسب بل وأيضا لقوانين التسليح الوطنية أبرزها القانون الأمريكي . وهذا ما أكده و تقرير جديد صادر عن مجموعة بارزة من المسؤولين الأمريكين القانونيين صدر في 14 نيسان الماضي أظهر التقرير أن للحكومة الاسرائيلية نمطا واضحا من الاستهداف والإهمال طوال حملتها العسكرية في غزة ويبين التقرير أن هذه الحملة تتعارض تماما مع منهجيات الاستهداف وافضل الممارسات العسكرية في الولايات المتحدة. وأشار التقرير أن غالبية الضربات التي راجعها التقرير لم يوافق عليها المسؤولون الامريكيون . ويخلص التقرير أن سلوك إسرائيل سيؤدي في النهاية إلى فرض تعليق على بعض عمليات نقل الأسلحة الامريكية إلى إسرائيل . ثمة تخوف من ان تؤدي الحرب الإسرائيلية في نهاية المطاف الى اضعاف الهيكل القانوني الذي بدأ مع اتفاقيات جنيف 1949 مما يشكل خطرا على المدنيين في الصراعات المستقبلية.
اجماع عالمي على إدانة إسرائيل
أجمعت التقارير الدولية الصادرة عن المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية على أن إسرائيل ارتكبت ولاتزال ترتكب أعمال الإبادة في غزة الى جانب جرائم حرب .في حين يبدي حلفاء إسرائيل تضامنهم ودعمهم لإسرائيل الثابت وحقها في الدفاع النفس الذي يبدو أنه غير مقيد ورغم أن حلفاء إسرائيل يكررون بشكل متزايد أن الهجوم الإسرائيلي يجب أن يتم في اطار قانون الحرب فإنه مع تصاعد الانتهاكات لم يدعموا التنديد ولا الجهود الرامية إلى وقفها .
إن المعايير المزدوجة هي التي تحكم موقف معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة . آثار قتل 1600 إسرائيلي غضبا عالميا ولكن قتل أكثر من 41 ألف فلسطيني وأسر أكثر من 10 آلاف آخرين واعتقال ما يقارب 9 آلاف في الضفة الغربية وفقدان اكثر من 10 آلاف تحت الأنقاض وتشريد حوالي مليوني فلسطيني في غزة هذا كله لم يثر أي ضجة مماثلة لدى الحكومات الغربية التي أدانت هجمات حماس في 7 أكتوبر2023 ولم يصدر عنها أي تنديد مماثل لسلوك إسرائيل الاجرامي. مقابل هذه الازدواجية ومنذ بداية الحرب على غزة، ظهر إجماع عالمي أوسع يركز على انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي ويؤكد عدالة القضية الفلسطينية. تمثل هذا التحرك من خلال تضامن العالم الثالث ومعه بعض الدول الغربية مع الشعب الفلسطيني كاسبانيا والنرويج وايرلندا وسلوفينيا. جنوب افريقيا التي اتخذت موقفا واضحا من السلوك الإسرائيلي المتوحش وسلكت طريقا تجاوز مجرد الادانات الشفوية فلجأت إلى محكمة العدل الدولية برفع دعوى ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة ،وتضاعف عدد الدول المتدخلة إلى جانب جنوب أفريقيا بينما لم تقدم أي دولة اعلانا بالتدخل لصالح إسرائيل إلى الآن. إن قضية الإبادة الجماعية قد تستغرق سنوات، وفي النهاية قد لا تثبت إدانة إسرائيل. و من الممكن أيضا أن لا تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ولكن من الخطأ تجاهل خطورة الاتهامات التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية . فهي تشمل "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، و"القتل العمد" للمدنيين، و"توجيه الهجمات عمد اً" ضد السكان المدنيين، و"الاضطهاد"، والأخطر من ذلك كله "الإبادة و/أو القتل". هذه الاتهامات تؤكد أن الكيان الصهيوني قد انتهك القانون الدولي الإنساني. إضافة إلى ذلك، صدور الرأي الاستشاري عن محكمة العدل الدولية حول النتائج القانونية المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي لاراضي العام 67 ومسؤولية الدول الثالثة حيال ذلك ،و قرار الجمعية العامة في سبتمبر أيلول الفائت الذي يطالب إسرائيل بانهاء احتلالها لارضي الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة خلال 12 شهرا من تاريخ صدور القرار ومطالبة الدول كافة باتخاذ الإجراءات التي تساعد الفلسطينيين في تقرير مصيرهم واتخاذ موقف واضح تجاه سلطات الاحتلال عبر الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية والقانونية، من شان هكذا تحرك دولي وقضائي أن يعزز قواعد القانون الدولي وليس تهميشه ويُفشل محاولات إسرائيل في إعادة صياغته.
ماذا يقول القانون الدولي الإنساني عن الهجمات العسكرية؟
- يجب على أطراف النزاع أن تميّز دومًا بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية. ويجوز لأطراف النزاع توجيه عملياتها ضدّ الأهداف العسكرية دون غيرها، وبالتالي، يحظر شنّ الهجمات العشوائية (البروتوكول 1، المادة 48 والقواعد 7 و11 - 13 من القانون الدولي الإنساني العرفي في دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر).
- أن ترتَّب على القادة العسكريين مسؤولية اتّخاذ تدابير وقائية عند الإعداد للهجمات وتنفيذها بغرض الحدّ من آثارها الضارة المحتملة والتأكد من عدم شنّها بطريقة عشوائية (وأن تكون الأضرار على المدنيين متناسبة مع ما يُنتظر أن يسفر عنه الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة (البروتوكول 1، المادتان 57 و58، والقواعد 14-24 من دراسة القانون الدولي الإنساني العرفي للجنة الدولية للصليب الأحمر.)
- لا يجوز تفسير أي من أحكام هذه المادة (المادة 57) بأنه يجيز شنّ أي هجوم ضدّ السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية (البروتوكول 1، المادة 57-5).
- يحظر القانون الإنساني أي نوع من الهجمات العشوائية، نظرًا لأن تلك الهجمات لا تميّز بين الأهداف العسكرية والمدنية. ومثل هذه الهجمات معرَّفة وهي محظورة بالتفصيل بموجب المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1997 الملحق باتفاقيات جنيف وكذلك القواعد11 و12 و13 من دراسة القانون الدولي الإنساني العرفي التي أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر:
- الهجمات غير الموجهة نحو أهداف عسكرية محدّدة.
- الهجمات التي تُستخدم فيها طريقة أو أساليب قتالية تحول دون توجيهها نحو أهداف عسكرية محدّدة.
- الهجمات التي تُستخدم فيها طريقة أو وسائل قتالية لا يمكن تحديد آثارها.
- الهجمات بالقصف بأية وسيلة أو طريقة تتعامل مع عدد من الأهداف العسكرية المتباعدة والمتمايزة بوضوح وكأنها هدف عسكري واحد والكائنة في مدينة، أو بلدة أو قرية، أو منطقة أخرى تضمّ تركيزًا مشابهًا للمدنيين أو الأعيان المدنية.
- الهجمات التي يتوقع منها أن تسبِّب بصورة عارضة إصابة المدنيين وإلحاق خسائر في أرواح المدنيين أو إصابات بينهم أو أضرارًا بالأعيان المدنية، أو مجموعة من هذه الخسائر والأضرار، وتكون مفرطة في تجاوز ما يُنتظر أن تسفر عنه من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة.