«يتعيّن على العالم أن يدعم إسرائيل ويطالب بوقف فوري للهجمات التي يشنها حزب الله وانسحاب مقاتليه إلى شمالي نهر الليطاني ونزع سلاحه طبقاً للقرار 1701»، دعوة أطلقها وزير الخارجية الصهيوني يسرائيل كاتس عشية قصف الضاحية واغتيال القائد فؤاد شكر. فنزع سلاح المقاومة الإسلامية اللبنانية مطلب إسرائيلي أولاً وأخيراً، والمجتمع الدولي المنافق المؤيد والصامت إزاء ما ترتكبه إسرائيل من إبادة جماعية وجرائم حرب، يطالب أيضاً بنزع سلاح المقاومة، والمجتمع اللبناني منقسم حول هذه المسألة. إذ ينادي فريق سياسي من تيارات مختلفة بنزع سلاح المقاومة ويتعامل معها على أنها ميليشيا تخالف القانون، وأن حماية الحدود الجنوبية هي من واجبات الدولة والجيش الوطني فقط. المطلوب في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان والعالم العربي أن يناقش هذا المطلب من زوايا عدة للتحقق من مدى مشروعية "نزع" سلاح المقاومة، ثم مناقشة مبررات بقاء المقاومة المسلحة ضد إسرائيل إلى جانب الجيش الوطني اللبناني.
مقاومة الاحتلال والاستيطان حق مشروع
يؤكد القانون الدولي أن المقاومة بكل أشكالها حق مشروع للشعب الواقع تحت الاحتلال، وأن سلاحها يحظى بشرعية قانونية ولا يمكن نزعه، وهو ما يضع إسرائيل وحلفاءها أمام إحراج قانوني. لذا يحرص هذا العدو ومن يدور في فلكه على شيطنة المقاومة ووصف مقاتليها بالمخربين أو الإرهابيين. فيما أي محاولة لقمع الكفاح المسلح هي مخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولاتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها، لأن القانون الدولي يقر لجميع الشعوب المحتلة بحقها في الدفاع الشرعي، ومواجهة الاحتلال بجميع السبل الممكنة، بما في ذلك الكفاح المسلح، إذ لا يوجد أي نص أو قاعدة قانونية تمنع استخدام سكان الأراضي المحتلة للسلاح أو تنفيذهم لأي نشاط وطني أو مقاوم ضد الاحتلال، بل جعلت من الواجب على الشعوب القيام بما يتحتم عليها من المواجهة لإنهاء احتلال أراضيها، كما اعتبرت المواثيق والشرائع الدولية الاحتلال سلطة قائمة بالقوّة لا على سلطة القانون، لذلك فإن ضمان إزالتها لا يأتي إلا بالقوة، بغض النظر عن ماهيّة هذه القوة. وتؤكد القرارات الدولية التي صدرت عن الأمم المتحدة منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا على حق المقاومة، من بينها القرار رقم (3103) لسنة 1973 بشأن المبادئ المتعلقة بالمركز القانوني للمقاتلين الذين يكافحون ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي والنظم العنصرية، والذي أضفى مشروعية على عملهم، وأكد أن هؤلاء المقاتلين تشملهم الحماية بموجب قواعد القانون الدولي المعمول به في النزاعات المسلحة مثل اتفاقيات جنيف لعام 1949 الخاصة بجرحى الحرب وأسراهم وحماية المدنيين. وقد نص هذا القرار على أن نضال الشعوب في سبيل حقها في تقرير المصير والاستقلال هو نضال شرعي يتفق تماماً مع مبادئ القانون الدولي. والقرار الرقم 2649 المتعلق بـ «إدانة إنكار حق تقرير المصير»، والذي ينص بالحرف على أن الجمعية العامة «تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها». وهذا ما جاء أيضاً في نصّ قرار الجمعية العامة الرقم 2649 لسنة 1970م: «إن الجمعية العامة للأمم المتحدة تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأي وسيلة في متناولها… وتعدّ أن الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها خلافاً لحق شعوب تلك الأراضي في تقرير المصير، لا يمكن قبوله ويشكّل خرقاً فاحشاً للميثاق». أما في ما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني، فقد نص البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977)، في مادته 1 (4)، على أن مقاومة الشعوب تحت «الاحتلال الأجنبي» و«ضد الأنظمة العنصرية» تعتبر نزاعات مسلحة، يتمتع الأفراد الذين يقومون بممارستها بوضع أسير الحرب في حال وقوعهم أسرى، ما يعني أن مقاومتهم مشروعة. وعلاوة على ذلك، أثبتت الممارسة العامة في تحقيق «حق تقرير المصير» على مرّ السنين أنه لا تكاد توجد حالة لتقرير المصير تتحقق من دون اللجوء إلى القوة والكفاح المسلح. ومن ثم، فإن عدم الاعتراف بحركات المقاومة من شأنه أن يصبح فيه أيّ احتلال أجنبي أمراً واقعاً على الشعب الواقع تحت الاحتلال في الوقت الذي يُحظرالقانون الدولي الاستيلاء على الأراضي بالاحتلال.
(من مناورة لحزب الله)
مبررات استمرار المقاومة اللبنانية
أولاً: عقلية الغيتو الصهيونية التوراتية
رغم التغيرات الواسعة في العالم منذ إنشاء الأمم المتحدة وتبنّيها العديد من القرارات الدولية والاتفاقيات الدولية التي تعترف وتقرّ بحقوق الإنسان وتجريم التمييز العنصري والكراهية بين الشعوب، تجاوزت معظم المجتمعات الأفكار العنصرية وحاربتها وجرّمتها على صعيد قوانينها الوطنية، واعترفت بحقوق الآخرين والأقليات وعدم التمييز بسبب الدين أو العرق أو الانتماء الإثني والثقافي. إلا أن العقل الصهيوني يرفض إحداث أيّ تغيّر في فكره الذي تعشش فيه الخرافات والأساطير التي تتمحور حول كون اليهود شعب الله المختار وأن الأرض الفلسطينية هي أرض أجداده وأرض الميعاد المزعومة. نظرية تفوّق العرق اليهودي على «الغوييم»، أي الغرباء غير اليهود، دفعت بإسرائيل الى تطوير برنامجها العسكري بدعم وتمويل ورعاية الولايات المتحدة على أساس هذه النظرية. الغلواء الصهيونية تصل ذروتها عندما ترفض إسرائيل رسم حدودها وتعتبر هذه الحدود مفتوحة، وهي آخر نقطة يقف عليها الجندي الصهيوني بحجة الأمن تارة، وبحجة أرض الميعاد الخرافية تارة أخرى. اليهود الصهاينة ينظرون إلى الشعوب الأخرى (غير اليهودية) على أنها الجنس الأدنى الذي يجب استعباده وتسخيره لخدمة الشعب اليهودي. هؤلاء الصهاينة هم من أقاموا نصباً تذكارياً للمجرم باروخ غولدشتاين الأميركي الصهيوني الذي قتل 27 مصلّياً في الحرم الإبراهيمي عام 1994. والكيان الصهيوني لا يعترف بحق شعوب المنطقة العربية بالوجود، ويرى أن لا خيار أمامها سوى الإبادة أو التهجير القسري. جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة منذ عام خير شاهد على عقلية التفوق اليهودي ليس فقط على الفلسطينيين، بل على العالم بأسره. كل من يعترض أو يناقش أو ينتقد سلوك الصهاينة الهمجي الإجرامي يتّهم بمعاداة السامية. تفوّق العرق اليهودي جعل الكيان الصهيوني المؤقت يستهزئ بقرارات الأمم المتحدة وبقرارات محكمة العدل الدولية، ويمزق مندوبه ميثاقها من على منبر الجمعية العامة. ألم يصرّح قادة الكيان الصهيوني بأنهم يقاتلون حيوانات بشرية، وأن التوراة تأمرهم بالتخلص من كل طفل وامرأة ومسنّ، فكلهم «إرهابيون وكلهم حماس ولا تبقوا منهم أحداً في غزة». ومن المستغرب أن ما من دولة عربية مطبّعة مع الكيان الإسرائيلي اعترضت أو طالبت بتقديم اعتذار والتراجع عن تصريحات كهذه! علماً أن مجرد إطلاقها ونشرها علناً يشكل جريمة حرب قائمة بحد ذاتها.
ثانياً: التطبيع والأمن القومي العربي المشترك
السؤال الذي يُطرح على الدول العربية المُطبّعة: كيف استفاد الفلسطينيون من التطبيع؟ هل قدمت إسرائيل أيّ تنازلات تتعلق بخططها الاستيطانية المستقبلية؟ هل اعترفت بحق الشعب الفلسطيني بالوجود وحقه في إنشاء دولته على أراضي العام 1967؟
اتفاقيات السلام مع العدو الإسرائيلي لم تكن لتحصل إلا لتحقيق مصالح ثنائية على حساب القضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، اعترف المغرب بإسرائيل مقابل سيادته على الصحراء الغربية بضمانات قدمتها الولايات المتحدة، ومن أهم الوعود التي حصلت عليها الإمارات العربية المتحدة ثمناً للتطبيع تزويد جيشها بطائرات إف 35 الأميركية، علماً أن الكيان الصهيوني عارض الصفقة، والسعودية ستستفيد من التطبيع مع إسرائيل لأن «لديها مشروعاً حضارياً عظيماً ولديها رؤية 2030 التي تحتاج إلى استقرار وأمن وإلى تعاون جميع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل. وهناك أيضاً مسار البخور الذي تشترك فيه مع الهند والإمارات والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، مروراً بإسرائيل». السلام المزعوم الذي تسعى إسرائيل الى تحقيقه عبر التطبيع مع الدول العربية هو مقابل الاستثمارات والمنافع الاقتصادية وليس مقابل الحل العادل للقضية الفلسطينية. لقد قبل العرب المطبعون اتفاقيات سلام ثنائية مع الكيان الصهيوني، مسقطين حقوق الشعب الفلسطيني من حساباتهم، فما من فوائد يجنيها الشعب الفلسطيني من التقارب الصهيوني – العربي.
لقد تنبّه الفلسطينيون إلى أن اتفاقيات أوسلو كانت خدعة لمن وافق عليها ورضخ لها وبات جلياً أنها لم تؤدّ الى سلام عادل وشامل ولم تؤدّ إلى انشاء الدولة الفلسطينية، بل ما نجم عنها هو أن الكيان الصهيوني اقتطع أراضي من الضفة الغربية ووسّع مستوطناته وإقام الجدار الفاصل، وهو مستمر في سياسة قضم الضفة الغربية تحضيراً لضمّها إلى إسرائيل الكبرى. أما قطاع غزة فقد أبيد عن بكرة ابيه ولا تزال الإبادة مستمرة. اتفاق التطبيع اعتراف بحق إسرائيل بالوجود والتسليم بكيان العدو واعتبار كل ما قام به من جرائم منذ نشأته الى اليوم «دفاعاً عن النفس».
ثالثاً: الاطماع الإسرائيلية وحلم إسرائيل الكبرى
في آذار/ مارس 2023، ظهر بتسلئيل سموتريتش وزير مالية الكيان الصهيوني في خطاب ألقاه في باريس وأمامه خريطة تظهر تداخلاً بين فلسطين والأردن، في إشارة إلى أن إسرائيل تشمل أيضاً الأردن، تستند هذه الخريطة إلى شعار «أرغون» وهو تنظيم عسكري صهيوني يطالب بأن تكون فلسطين والأردن جزءاً من الدولة اليهودية. الخطة التوسعية لسموتريتش والدعم الذي يحظى به من الأوساط المتطرفة الصهيونية تثير مخاوف بشأن الاستقرار الإقليمي والقضية الفلسطينية. إن نظرته التوسعية تجاوزت إلى طموحات أوسع تمتد إلى دول عربية لتشمل أيضاً لبنان وسوريا والعراق ومصر، وصولا إلى المملكة العربية السعودية. من سيدافع عن السيادة العربية والشعب العربي؟ هل تستطيع الدول العربية المطبّعة ان تُفعّل اتفاقية الدفاع العربي المشترك؟ ماذا لو استطاعت فعلاً إسرائيل ضمّ العراق وسوريا كما تحلم وتخطط، هل ستقف الدول العربية مع من يتعرض لخطر التمدد الإسرائيلي؟ اليوم، لبنان يتعرض لعدوان إسرائيلي وخطط استيطان في الجنوب اللبناني، ماذا فعلت الدول العربية مجتمعة؟ هل يستطيع لبنان أن يطلب مساعدة الدول العربية وفقاً لاتفاقية الدفاع العربي المشتركة لصدّ العدوان الإسرائيلي؟ الدول العربية عاجزة عن تفعيل الاتفاقية التي تعتبر أن كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قواتها، اعتداء عليها جميعاً، ولذلك فإنها عملاً بحق الدفاع الشرعي (الفردي والجماعي) عن كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة جميع التدابير وتستخدم جميع ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما. وحسب المادة الثالثة من الاتفاقية «تتشاور الدول المتعاقدة في ما بينها، بناءً على طلب إحداها كلما هددت سلامة أراضي أي واحدة منها أو استقلالها أو أمنها». هل تستطيع مصر أن تحرك جيشها للدفاع عن لبنان وهي ملتزمة باتفاقية كامب ديفيد وعلاقات سلام مع الكيان الصهيوني؟ الجواب: بالتأكيد لا.
خلاصة القول، إن المرحلة الحالية والمقبلة تستدعي بقاء المقاومة بكل أنواعها وبقاء سلاحها، ولا يوجد أي عائق قانوني أن تستمر المقاومة مع الجيش الوطني جنباً إلى جنب، في دفاعها عن الوطن. ويتعين على الدول الموالية لخط المقاومة والمناوئة للغرب الأميركي الصهيوني الوقوف إلى جانب المقاومة والجيش في آن، بتقديم الدعم المعنوي والمادي والعسكري لهما، وهذا ما يتفق تماماً مع القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها. إن نزع سلاح المقاومة مخالف للقانون الدولي، وسلاح المقاومة ضد كيان استيطاني توسعي هو ضرورة حتمية. والقول بغير ذلك يعني السقوط في حتمية أخرى هي أن نكون «الغوييم»، ويكون مصيرنا الاستعباد أو الإبادة.
(من مناورة لحزب الله)