
في 20 أيار/ مايو 2024، طلب المدعي العام كريم خان من الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كانت هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها المحكمة الجنائية الدولية «قيادات» إسرائيلية، ما يشير إلى تحوّل محتمل في كيفية تعامل المجتمع الدولي مع سلوكيات مسؤولين إسرائيليين وبداية نهاية الإفلات من العقاب الذي تمتّعت به إسرائيل لعقود طويلة.
يستعرض المقال بعض النقاط القانونية، منها ما هو متعلق بالتهم الموجهة إلى نتنياهو وغالانت كما جاءت في طلب المدعي العام لإصدار مذكرات التوقيف والمعايير التي تعتمدها الدائرة التمهيدية لتوافق على إصدارها، ونقاط أخرى متعلقة بالعقبات القانونية المفتعلة من الجانب الإسرائيلي، ويمكن أن تؤخر أو تعطل سير العدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية وكيفية تخطّيها ومعالجتها.
-66c8cecfea74c.jpg)
التهم الموجهة إلى نتنياهو وغالانت
في الطلب الذي قدمه المدعي العام إلى الدائرة التمهيدية وفقاً للمادة 58 من نظام روما الأساسي، حدد الجرائم المزعومة بحق نتنياهو وغالانت، وكذلك الوقائع والأدلة التي تربط الأشخاص المطلوب توقيفهم بالجرائم المحددة. وعند تقديم الطلب، يتعيّن على المدعي العام أن يوضح سبب إصدار أوامر الاعتقال. وقد يكون هذا التفسير من أجل تأمين حضور الشخص أو منعه من إعاقة الإجراءات أو من الاستمرار في ارتكاب الجريمة أو الجرائم المنسوبة إليه. ويمكن للمدعي العام أن يقدم طلب إصدار مذكرة الاعتقال بصيغة علنية أو بصورة سرية أو شبه سرية، أي أن يقدم الطلب مختوماً مع إعلان عام بوجوده. وقد اختار المدعي عام الخيار الثالث وهو إعلان عن وجود طلب إصدار مذكرة اعتقال، لكن الطلب نفسه غير علني.
يسعى كريم خان إلى اعتقال نتنياهو وغالانت باعتبارهما مشاركين في ارتكاب جريمة حرب متمثلة في تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب وبالاشتراك مع حملة التجويع، إضافة إلى التسبّب عمداً في إلحاق معاناة شديدة بالمدنيين والقتل العمد. وتستند تهمة المشاركة في ارتكاب الجرائم المذكورة إلى مساهمات أساسية من جانب نتنياهو وغالانت في خطة مشتركة لاستخدام التجويع وغيره من أعمال العنف ضد السكان المدنيين في غزة كوسيلة للقضاء على حماس وتأمين عودة الرهائن، فضلاً عن فرض عقوبات جماعية على السكان. ويستند المدعي العام إلى مبدأ المسؤولية الجنائية للقادة والرؤساء التي تنص عليها المادة 28 من نظام روما الأساسي، والتي تقرّر مسؤولية القادة العسكريين والرؤساء المدنيين عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا كانوا يعلمون بها أو كان يجب عليهم العلم بها ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها أو محاسبة مرتكبيها.
ولتأمين أوامر الاعتقال، على المدعي العام إقناع الغرفة التمهيدية بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن الأفراد المذكورين في طلبه قد ارتكبوا الجرائم المزعومة. والاتهامات الواردة في طلب المدعي العام هي ذات مصداقية نظراً إلى توافر عناصر الجرائم المحددة ضد المسؤولين الإسرائيليين، لذا من المرجح الموافقة على أوامر الاعتقال. وهذا الترجيح يأتي لأسباب عدة، منها أن تهمة التجويع، إضافة إلى الأدلة القوية المقدمة على أساليب التجويع في غزة والتورط الواضح للمسؤولين في الحكومة، وتحديداً نتنياهو وغالانت، فإن النطاق الواسع للجريمة وخطورتها تجعل من المستحيل تجاهلها. وقد عرض المدعي العام مراراً على المسؤولين الإسرائيليين أن يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها، لكن مساعيه لم تفلح.
ولعل السؤال يُطرح هنا: لماذا ركّز المدعي العام على جريمة التجويع رغم توافر شروط وعناصر جرائم حرب أخرى؟
هناك أسباب قوية جعلت المدعي العام يبدأ بجرائم التجويع، وهي أن الرابط بين الجريمة والمنفذ تكون واضحة في حالة التجويع إذا نُفذ كسياسة. فمنذ اليوم الأول للحرب على غزة، كان كبار القادة الإسرائيليين يعلنون بصراحة شديدة عن إستراتيجية حرمان المدنيين من أساسيات الحياة (الماء والغذاء والوقود)، ومن بين هؤلاء غالانت الذي أمر منذ 9 أكتوبر بفرض حصار كامل على قطاع غزة. وبعد عشرة أيام، صرّح نتنياهو بأنه لن يسمح بالمساعدات الإنسانية بدخول القطاع. وتنفيذ هذه القرارات لم يكن ممكناً لولا التنسيق المتكامل بين أجهزة الحكومة الإسرائيلية من أعلى الهرم إلى أسفله، إضافة إلى طبيعة الجريمة المستمرة، ما يسهّل إثبات المسؤولية على المسؤولين ذوي الرتب العالية.
كيف ستقرر الغرفة التمهيدية إصدار مذكرة الاعتقال؟
الجهة المختصة بإصدار أمر القبض هي الدائرة التمهيدية للمحكمة، بناء على طلب المدعي العام متى اقتنعت بعد فحص الطلب بوجود أسباب معقولة تفيد بأن الشخص موضوع الأمر قد ارتكب جريمة تدخّل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وعتبة معيار الأسباب المعقولة هي أقل من عتبة الأسباب الجوهرية للاعتقاد واللازمة لتأكيد التهم والانتقال إلى المحاكمة، وهي أيضاً أقل بكثير من عتبة «ما لا يدع مجالاً للشك المعقول» اللازمة لتأمين الإدانة (وفقاً للمادتين 60 و61). ويمكن إثبات توافر الأسباب المعقولة عبر البيان الموجز للوقائع التي تشكل الجرائم وملخص الأدلة والمعلومات الأخرى التي تدعم الاعتقاد المعقول بأن الفرد المحدد في طلب إصدار أوامر الاعتقال مسؤول جنائياً عن الجرائم المنسوبة إليه.
قد تستغرق الغرفة التمهيدية عدة أشهر لإصدار قرارها بشأن إصدار مذكرة التوقيف. فنظام روما الأساسي لم يحدد المهلة الواجب مراعاتها لإصدار مذكرات التوقيف بل يخضع الأمر لكل حالة على حدة. فقد يصدر أمر الاعتقال خلال شهر من تقديم الطلب كما حدث مع الرئيس بوتين أو بعد سنة كما حدث مع الرئيس عمر البشير.
العقبات الإسرائيلية «المفتعلة» أمام المحكمة
1- إسرائيل ليست عضواً في المحكمة
عدم انضمام إسرائيل إلى نظام روما الأساسي لا يشكل أي عقبة أمام التحقيق في الجرائم المزعومة ضد نتنياهو وغالانت وربما آخرين من المحتمل أن تتم إضافتهم لاحقاً. فولاية المحكمة الجنائية الدولية تستند إلى الجرائم الدولية المزعوم ارتكابها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلى انضمام دولة فلسطين إلى نظام المحكمة الأساسي عام 2015. فلا عقبات قانونية سوى التهديد المستمر لعمل المحكمة الجنائية الدولية ومحاولات إسرائيل التهرب أو التشكيك في صلاحياتها من جهة، والدعم الأميركي المفرط لحماية إسرائيل.
2 - هل من حصانة تحمي نتنياهو وغالانت من الملاحقة؟
لا يزال هناك خلاف حول ما إذا كان يحق لرؤساء الدول غير الأعضاء في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التمتع بالحصانة الشخصية أمام المحاكم الدولية أثناء توليهم مناصبهم. ولكن المحكمة الجنائية الدولية كانت قد حسمت موقفها حول مسألة الحصانة الشخصية للقادة والمسؤولين ورؤساء الدول وحتى غير الأعضاء في المحكمة، واعتبرت أن هؤلاء لا يتمتعون بأي نوع من الحصانة أمام القضاء الدولي المختص. لكن اللافت أن المحكمة الجنائية الدولية، ووفقاً للمادة 63 من نظامها الأساسي، لا يمكنها أن تحاكم الأفراد غيابياً. لذا فإن احتجاز المتهمين أمر أساسي لإجراء المحاكمة. وتعتمد المحكمة في ذلك على تعاون الدول في إنفاذ قراراتها بما في ذلك أوامر الاعتقال. وإذا صدرت فعلاً أوامر الاعتقال من قبل المحكمة، فإن الدول الـ 124 الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة ملزمة باعتقال المشتبه بهم ونقلهم إلى مقر المحكمة.
3- مبدأ التكامل: ذريعة إسرائيلية لتجنّب أوامر الاعتقال
طبقاً لنظام روما الأساسي في مادته الـ 12 تتمتع المحكمة الجنائية الدولية باختصاص ثانوي بعد المحاكم الوطنية، ولا يمكنها التصرف في حالة معينة إلا إذا كانت الدول المعنية غير راغبة أو غير قادرة على مقاضاة مرتكبي الجرائم التي تدخل في نطاق ولايتها القضائية. وعملاً بمبدأ التكامل القضائي، فإذا عمدت دولة ما إلى مقاضاة الجناة ومرتكبي جرائم الحرب، لن يكون للمحكمة الجنائية الدولية اليد في مقاضاة هؤلاء طالما أن القضاء الوطني يمارس هذا الدور بفعالية وجدية. ولكن لا تنطبق هذه المادة على حالة إسرائيل للأسباب الآتية:
- لم يقم القضاء الإسرائيلي بالتحقيق بشكل فعّال في الجرائم المنسوبة إلى بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، ولو فعل ذلك لما كانت المحكمة الجنائية الدولية قد تدخلت في ملاحقة ومقاضاة مرتكبي جرائم الحرب في غزة. لكن التصريحات الإسرائيلية المتعلقة بعمل المحكمة الجنائية الدولية تؤكد على نحو لا لبس فيه أن الكيان الصهيوني ينوي التهرب من إجراءات المحكمة وتعطيل عملها. وكان موقف إسرائيل الرافض لعمل المحكمة ولصلاحيتها واضحاً منذ عام 2019 عندما أعلنت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا عن فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعرضت شخصياً لتهديدات مباشرة من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وأعلنت حينها إسرائيل صراحة أنها لن تتعاون مع المحكمة.
- لم تبدِ إسرائيل أي جدية أو رغبة حقيقية في إجراء تحقيقات قضائية حول الجرائم المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت. بل عمدت إلى التشكيك في صلاحية المحكمة وتأجيل النظر في طلب إصدار مذكرات الاعتقال عبر تحرّك دولة حليفة لها، هي المملكة المتحدة، عبر الطعن في صلاحية المحكمة (راجع «القوس»، «بريطانيا العظمى تعرقل سير العدالة»، 17/8/2024)
- زعمت إسرائيل أن طلب إصدار مذكرات التوقيف هو شكل من أشكال معاداة السامية الجديدة ويشكل تهديداً لانهيار النظام القضائي الدولي العالمي!
- أعلن وزير المالية الصهيوني أنه في حال صدرت أوامر الاعتقال فعلاً فسيتم حجب الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية.
- شنّت إسرائيل هجوماً لاذعاً وحملة تهديدات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية وهو ما أثار مخاوف من عدم إمكانية ردع إسرائيل قضائياً.
- ادعاءات إسرائيل أنها ستعمد إلى تجنب إجراءات الاعتقال بتشكيل لجنة حكومية بناءً على توصية من المدعية العامة الإسرائيلية غالي بهاراف لإثبات أن إسرائيل تمارس ولايتها القضائية، ولكنها في الوقت عينه أكدت أن تشكيل لجنة تحقيق لن يؤدي على نحو يقيني إلى إلغاء طلبات إصدار مذكرات الاعتقال. فالتحقيق يجب أن يجري مع المتهمين المحددين في طلب مذكرات الاعتقال وهما نتنياهو وغالانت، وإلى اليوم لم تجر السلطات الإسرائيلية أي تحقيقات جدية حول الجرائم المنسوبة إلى رئيس وزرائها ووزير دفاعها.
- تنفي إسرائيل بشكل متكرّر أي ممارسة أو سياسة لحرمان المدنيين في غزة من المواد الغذائية أو أي عرقلة لعمليات الإغاثة الإنسانية على نحو متعمد.
- ما تمارسه إسرائيل حتى الآن يصنّف على أنه عرقلة لسير العدالة، وهو ما أعلنه كريم خان المدعي العام بإعلان أنه لن يتردد في مقاضاة محاولات عرقلة أو ترهيب أو التأثير بشكل غير لائق على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 70 من نظام روما الأساسي المتعلقة بتجريم الأفعال المعرقلة لسير العدالة، والتي تجيز للمحكمة أن توقع عقوبة بالسجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة أو العقوبتين معاً.
- تأثير المساءلة الجنائية على عملية السلام
ثمة من يرى أن تحرك المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة إسرائيليين من شأنه أن يؤثر على فرص السلام وحل الدولتين، وأن على المحكمة أن تمارس «ضبط النفس». لكن التأثيرات السياسية للملاحقة القضائية الدولية مسألة منفصلة ولا ينبغي التذرع به، وإن كان تحرك المدعي العام «عمل شائن» كما وصفه المناهضون لعمل المحكمة، فهو وصف سياسي لا علاقة له بالقانون الدولي. فالمدعي العام كان على علم بكل ما يُثار سياسياً حول مقاضاة إسرائيليين، لذلك دعّم طلبه أمام المحكمة برأي لجنة خبراء دوليين (أوروبيين)، أجمعوا على أن الأدلة التي قدمها المدعي العام استوفت المعيار القانوني المطلوب لتحركه، وبذلك منح نفسه غطاء قانونياً ودولياً محكماً لطلب إصدار مذكرات التوقيف.