Mai
أيار
31
2025
31
- أيار
- 2025
المباحث العلمية
المختبر الجنائي
08-01-2022
 
دماء في مسرح الجريمة
شاهدٌ صامت
  جنان الخطيب  

 تحليل أنماط البقع الدموية أحد الاختصاصات العديدة في مجال علم الجريمة والعلوم الجنائية. تتداخل فيه مجالات علميّة متعدّدة كالفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم الأحياء لتحليل مسرح الجريمة. يُقدم هذا العلم التطبيقي دليلاً جوهرياً وقوياً لبقع الدماء التي يُعثر عليها في مسرح الجريمة بهدف تقديم معلومات مهمة عن نوع وتسلسل الأحداث في مسرح الجريمة، ما يجعله أداة فاعلة لخبراء الأدلة الجنائية والمحققين لاكتشاف كيف حدثت الجريمة

وقعت الجريمة. الجثة في الأرض. سريعاً، يطلب النائب العام المناوب من عناصر مكتب الحوادث التابع للشرطة القضائية الكشف الحسي على مسرح الجريمة. يبدأ هؤلاء التعاون مع الطبيب الشرعي لمعاينة الجثة وجمع الأدلة، بهدف إرسالها إلى مكتب المباحث العلميّة لتحليلها. 
ومن الطبيعي خلال هذه العمليّة أن تتجه أنظار الخبراء الجنائيين مباشرةً إلى بقع الدماء في مسرح الجريمة. الدم هو الشاهد الصامت ضد الجاني، على اعتبار أنّه الدليل الواقعي الذي لا يُخطئ ولا يشهد زوراً. تكمن المشكلة في الفشل البشري بالعثور عليه ودراسته، ما قد يقلّل من قيمته خلال مسار التحقيق.

ولذلك، تتركّز أسئلة الخبراء على توزيع بقع الدماء وطريقة انسيابها، لأن الدماء تتحرّك وفقاً لمبادئ علمية محدّدة: هل انساب الدم من الضحية ببطء مشكلاً بقعة كبيرة حول الجثة  (Void Pattern)؟ أم تدفق بغزارة على شكل ترشيش دموي (Impact Pattern)؟ أم على شكل مشحات مذيّلة (Flow Pattern)؟
كلّ هذه الأسئلة تساعد الخبراء في مسرح الجريمة على ملاحظة أشكال الدماء وأنماطها لاستخلاص استنتاجات حول كيفية إراقة الدماء، بغية تحديد حركة الضحية والجاني، وتسلسل الأحداث في مسرح الجريمة.
ما تراه عيون غير الخبراء على أنّه توزيع عشوائي لبقع الدماء في مسرح الجريمة، يُمكّن الخبراء من إعادة تكوين تسلسل الأحداث التي وقعت بعد إراقة الدماء من خلال جمع المعلومات عن أنماط الترشيش واللطخات والانسيابات والعلامات الأخرى عبر دراسة معالم مسرح الجريمة، الجثة، سلاح الجريمة، وملابس المشتبه به. فالخبير يصنّف كل بقعة دموية بحسب شكلها، حجمها، مكانها وتوزيعها.
يعتمد الخبير الجنائي في ملاحظاته على تطبيق التحليل الجنائي الحديث للبقع أو الانسيابات الدموية أو ما يعرف بـForensic Blood Pattern Analysis، للتعرف على أنماط البقع الدمويّة وتحليلها بهدف تقديم التفسير المنطقي للأحداث الديناميكية التي أدت إلى نشأتها، وكيف حصلت الجريمة وما لم يحصل حين وقوعها.
مبادئ تحليل نمط البقع الدمويّة
تخرج الدماء من الجسم المُصاب بطرق عديدة، تبعاً لنوع الإصابة: قد يسيل على شكل قطرات، أو عن طريق الرش شالدموي، أو يتدفّق من الجروح. ولكن حينما تخرج قطرات الدم من الجسم وتصطدم بسطحٍ ما، يتغير شكل البقعة بحسب زاوية التأثير (الزاوية بين اتجاه الدماء السائل من سلاح الجريمة أو الضحية ومستوى السطح)، السرعة، المسافة ونوع السطح. ومن خلال قياس عرض وطول البقعة يمكن معرفة زاوية التأثير، ما يساعد المحققين على تحديد تسلسل الأحداث في مكان الجريمة. 
وعليه، تُصنّف البقع إلى ثلاثة أنواع أساسية: البقع السلبية(Passive) ، البقع المنقولة (Transfer)، والترشيش (Spatter).
واستناداً إلى الأحجام والأشكال المختلفة لقطرات الدماء، يمكن للخبراء الجنائيين عادةً تحديد سلاح الجريمة الذي أدّى إلى تناثر الدماء، وتحديد مسرح الجريمة الأول الذي وقع فيه الهجوم، وتتّبع مواقع تنقّل الضحية والجاني وحركتهم في مسرح الجريمة.
وكثيرًا ما يُستخدم تحليل البقع الدمويّة للتأكد من صحة أقوال المشتبه بهم كحجّة القتل دفاعاً عن النفس أو أسباب وصول الدم إلى ملابسهم وأياديهم في حال وجودهم في مسرح الجريمة قبل وصول الخبراء والمحققين.

يساعد توزيع البقع في تحديد حركة الضحية والجاني وتسلسل الأحداث

ملابسات قتل لقمان سليم
رهن «تحليل الدماء»

في لبنان يُهمَل الدليل المتعلق بالدماء في مسرح الجريمة ويقتصر استخدامه على تحديد الحمض النووي. فمكتب الحوادث التابع للشرطة القضائيّة، الذي يقوم بإجراء الكشف الحسي على مسرح الجريمة، لا يملك خبراء متخصصين بدراسة البقع الدمويّة وانسياباتها، للاستعانة بهم عند وقوع جرائم العنف كالقتل والاغتصاب والانتحار المشبوه. في المقابل، كان يمكن للتحليل الجنائي للدماء أن يحل ألغاز جرائم عديدة وقعت في لبنان، أو على الأقل الإجابة على أسئلة مهمّة تُساعد المحققين في استكمال تحقيقاتهم. هذا ما يظهر جلياً إذا روجعت الصور المسربة عن جريمة لقمان سليم الذي قضى في 4 شباط (فبراير) الماضي، مقتولاً رمياً بالرصاص في الجنوب، من دون أن تتمكّن الجهات الأمنية من كشف ملابسات الجريمة. 
يظهر الضحيّة مُمَدّداً على المقعد داخل سيارته، بالإضافة إلى وجود أنماط مختلفة من البقع الدمويّة: برك على المقعد، تدفقات من الجروح وترشيش على أسفل الباب. وباستخدام التحليل الجنائي للبقع الدموية، يمكن الإجابة على أسئلة كثيرة تدور في أذهان المحققين: 
■ هل توجد بقع دموية منتقلة من المسرح إلى خارج السيارة؟ ما المسافة بينهما؟
■ هل نتجت كل الجروح عن القوة الديناميكية نفسها؟ والسلاح نفسه؟

*وضعية الضحية كما ظهرت في صور نُشرت في وسائل الإعلام*

1 ما مدة نزيف الضحية في سيارته؟ هل تتناسب مع تحديد مدة الوفاة؟ أم نزف أيضاً في مكان آخر؟

2 هل حُرّكت الجثة بعد القتل؟ وكيف؟

3 هل يتناسب مستوى الترشيش الدموي والتدفقات الشريانية في مسرح الجريمة مع جروح الدخول والخروج في جثة الضحية؟ هل قُتلت الضحية داخل السيارة، أم خارجها ثم نُقِل إلى داخل سيارته؟ هل هناك أكثر من مسرح جريمة واحد؟

الإجابات على تلك الأسئلة، موجودة في مسرح الجريمة من خلال انسياب الدماء تحديداً.
إجابات علمية دقيقة كفيلة بكشف خيوط الجريمة كاملة!*

بالإضافة إلى حادثة سليم، وقعت في بلدة بعقلين في 21 نيسان 2020 جريمة جماعية ذهب ضحيّتها 9 أشخاص. وتظهر صور الضحايا المُسربة لطخات وانسيابات دموية مختلفة تساعد على تحديد تسلسل الأحداث واتجاه الجاني وحركاته داخل مسرح الجريمة، لاسيما سلاح الجريمة المستعمل.
أما الجريمة الثالثة فهي جريمة قتل أنطوان داغر، مدير الأخلاقيات وإدارة مخاطر الاحتيال في بنك بيبلوس، الذي قُتل بضربه بآلة حادة على رأسه في موقف السيارات في المبنى الذي يقطنه في الحازمية. 
وتبيّن الصور المسرّبة لداغر آثار طبعات الأقدام الدمويّة في مسرح الجريمة، بالإضافة إلى انسيابات دمويّة موجودة على ملابسه والتي تأثرت بقوة الجاذبية والترشيش الدموي متوسط السرعة على أسفل باب السيارة. كان يمكن لتحليل كلّ هذه البقع أن يساعد في اكتشاف ما حصل خلال الجريمة بل المساعدة في كشف الجاني أو الجناة.